إن علم المنطق خير معبّر عن طبيعة التصوّرات و الأحكام و نهجها، يعكس
في قضاياه علامات دالّات و شواهد قائمة على الأسس الفلسفية و الفكرية و العلمية
المحصّلة بالجهد العقلي، موسوم بآثارها و معالم تدبيرها و تجلّي تراكيبها و تواري
خلفياتها. و هذه الأسس، على اعترافها بالحاجة إلى المنطق و افتقارها إليه، تتباين
بتباين العصور و الثقافات. فالمنطق و النشاط العقلي صنوان لا يفترقان، ينمّان على
البنية الذهنية و الفكرية و الناتج العلمي العملي.
و لعلّ الاهمية التي تعلّق اليوم على المنطق كبيرة، لما يجري فيه و
عنه من أبحاث، و هي أبحاث تتعدّى المنهج لتطال الرياضيات و العلوم فترمّزهما و
تختزلهما بمعادلات و مسلّمات، مشكّلة البنيّات الصورية القاعدية. و يتجلّى ذلك في
محصّلات أعمال حلقة قينّا، و تيار اكسفورد المنطقي اللسني، و غيرهما من توجهات
منطقية معاصرة. بيد أن هذه الأبحاث و الاكتشافات الجديدة في المادة المنطقية و
تطويرها ليست إلا حلقة عليا في سلسلة من الترقّي لا تنعزل عن حقب تاريخ المنطق في
مختلف مراحله.
و لا غرو، فإن الحاجة إلى تطوير المادة المنطقية تعميقا و توسيعا
يشعر بضرورة الاطلاع أو المزيد منه على هذه المرحلة أو تلك من تاريخ هذه المادة.
فتوضيح كل فترة من فترات تاريخ المنطق و الكشف عن غوامضها و مجاهلها لا بد أن يلقي
أضواء جديدة على نواح من هذا العلم، لم تكن معروفة أو على الأقل كانت مهملة قبل
ذلك.
و هذا القول إن صدق على مادة علم المنطق، فالأجدر و الأحق أن يصدق
على هذه المادة في صياغتها العربية، و عند محطتها العربية و الاسلامية الطويلة
زمنيا. فقد تحوّلت منهجيا من الاستنباط إلى بعض من الاستقراء أو من المعيارية نحو
بعض من التجريبية، بعد امتزاج المنطق بأصول الفقه و التجارب العلمية في ميادين
علوم تلك الحقبة، و تبعا لطبيعة اللغة العربية المنطلقة من المحسوس المعيّن
المشخّص.