لهما المرتبة
الأخیرة من الفقر، أعنی الاستغناء و الرضا- کان الواجد أفضل من الفاقد،
لاستوائهما فی عدم الالتفات إلیه، و مزیة الواجد باستفادة أدعیة الفقراء و
المساکین. ثم الحکم بانقطاع القلب رأسا عن المال وجودا و عدما إنما
یتصور فی الشاذ النادر الذی لا یسمح الدهر بمثله إلا بعد أزمنة متطاولة، و
قلوب جل الناس غیر خالیة عن حب المال و التعلق به. فتفصیل القول بأفضلیة من
هو أقل تعلقا بالمال، و استواء درجتهما مع استوائهما فی التعلق، و مزیة
الواجد علی الفاقد مع انقطاع قلبهما بالکلیة عنه مزلة الأقدام و موضع
الغرور، إذ الغنی ربما یظن أنه منقطع القلب عن المال و یکون حبه دفینا فی
باطنه و هو لا یشعر به، و إنما یشعر به إذا فقده، فما عدا الأنبیاء و
الأولیاء و شرذمة قلیلة من أکابر الأتقیاء لو ظنوا انقطاعهم عن الدنیا إذا
جربوا أنفسهم بإخراج المال من أیدیهم یظهر لهم أنهم مغرورون و لیس لهم تمام
الانقطاع عن الدنیا، و إذا کان ذلک محالا أو بعیدا فلیطلق القول بأن الفقر
أصلح لکافة الناس و أفضل، لأنه عن الخطر أبعد، إذ فتنة السراء من فتنة
الضراء أشد، و علاقة الفقیر و أنسه بالدنیا غالبا أضعف، و بقدر ضعف علاقته
یتضاعف ثواب أذکاره و عبادته، إذ حرکات اللسان و الجوارح لیست مرادة
لأعیانها بل لیتأکد بها الأنس بالمذکور و تأثیرها فی إثارة الأنس فی قلب
فارغ عن غیر المذکور أشد من تأثیرها فی قلب مشغول، و لهذا وردت الأخبار
مطلقة فی فضل الفقر علی الغنی، و فی فضل الفقراء علی الأغنیاء.
(الثانی) فی الترجیح بین الفقر مع الحرص و الجزع، و الغنی مع الحرص و الإمساک.
و التحقیق فیه أن مطلوب الفقیر إن کان ما لا بد منه فی المعیشة و کان حرصه فی تحصیل هذا القدر دون الزائد منه و کان قصده