اعلم أنه لا یبلغ مع العبد عند الموت إلا صفاء القلب، أعنی طهارته عن
أدناس الدنیا و حبه للّه و أنسه بذکره، و صفاء القلب و طهارته لا یحصل إلا
بالکف عن شهوات الدنیا، و الحب لا یحصل إلا بالمعرفة، و المعرفة لا تحصل
إلا بدوام الفکرة، و الأنس لا یحصل إلا بکثرة ذکر اللّه و المواظبة علیه، و
هذه الصفات الثلاث هی المنجیات المسعدات بعد الموت، و هی الباقیات
الصالحات. أما طهارة القلب عن أدناس الدنیا، فهی الجنة بین العبد و بین عذاب اللّه، کما
ورد فی الخبر: «أن اعمال العبد تناضل عنه، فإذا جاء العذاب من قبل رجلیه
جاء قیام اللیل یدفع عنه، و إذا جاء من قبل یدیه جاءت الصدقة تدفع عنه ...»
الحدیث. و أما الحب و الأنس، فهما یوصلان العبد إلی لذة المشاهدة و اللقاء. و
هذه السعادة تتعجل عقیب الموت إلی أن یدخل الجنة، فیصیر القبر روضة من
ریاض الجنة، و کیف لا یصل صاحب الصفات الثلاث بعد موته غایة البهجة و نهایة
اللذة بمشاهدة جمال الحق، و لا یکون القبر علیه روضة من الریاض الخلد، و
لم یکن له إلا محبوب واحد، و کانت العوائق تعوقه عن الأنس بدوام ذکره و
مطالعة جماله، و بالموت ارتفعت العوائق و أفلت من السجن و خلی بینه و بین
محبوبه، فقدم علیه مسرورا سالما من الموانع آمنا من الفراق؟ و کیف لا یکون
محب الدنیا عند الموت معذبا و لم یکن له محبوب إلا الدنیا، و قد غصبت منه و
حیل بینه و بینها، و سدت علیه طرق