ولَم يستطع العبّاس صبراً على البقاء
بعد أنْ فُني صحبُه وأهلُ بيته ، ويرى حُجّة الوقت مكثوراً قد انقطع عنه المدد ، وملأ
مسامعه عويل النّساء وصراخ الأطفال من العطش ، فطلب من أخيه الرخصة ، ولمّا كان
العبّاس (ع) أنفس الذخائر عند السّبط الشهيد (ع) ؛ لأنّ الأعداء تحذر صولته وترهب
إقدامه ، والحرم مطمئنّة بوجوده مهما تنظر اللواء مرفوعاً ، فلَم تسمح نفس أبي
الضيم القدسيّة بمفارقته فقال له : «يا أخي أنت صاحب لوائي» [١].
قال العبّاس : قد ضاق صدري من هؤلاء
المنافقين واُريد أنْ آخذ ثأري منهم ، فأمره الحسين (ع) أنْ يطلب الماء للأطفال ، فذهب
العبّاس إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار ، فلَم ينفع. فنادى بصوت عالٍ : يا
عمر بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء
عياله وأولاده عطاشى ، فاسقوهم من الماء قد أحرق الظما قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول :
دعوني أذهب إلى الروم أو الهند واُخلي لكم الحجاز والعراق. فأثّر كلامه في نفوس
القوم حتّى بكى بعضهم ، ولكنّ الشمر صاح بأعلى صوته : يابن أبي تراب ، لو كان وجه
الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا ، لَما سقيناكم منه قطرة ، إلاّ أنْ تدخلوا في بيعة
يزيد.
فرجع إلى أخيه يخبره ، فسمع الأطفال
يتصارخون من العطش [٢]
فلَم تتطامن نفسه على هذا الحال ، وثارت به الحميّة الهاشميّة :