مارس كلامهم ، ودرس
مقتضيات الأحوال ، فإنّهم لمْ يزالوا يتحرّون الوسائل الدقيقة لتوجيه النّفوس
نحوهم ، وتعريف ما لهم من حقّ مغصوب.
فمن ذلك ما أوصى به الإمام الباقر (عليه
السّلام) باعطاء ثمانمئة درهم لنوّادب يندبنه بمنى أيّام الموسم [١].
فإنّك إذا عرفت أنّ النّاس من مختلف
الأقطار والمذاهب يجتمعون في منى أيّام الحجّ ، وقد أحلّوا من كلِّ ما حُرّم عليهم
إلا النّساء ، وأنّها أيّام عيد وتزاور ، فتعقد هنالك حفلات المسرّة ونوادي
التهاني.
تعرف النكتة الدقيقة التي لاحظها الإمام
(ع) باختياره أيام منى على عرفات والمشعر ؛ لاشتغال النّاس بالعبادة والإبتهال إلى
المولى سبحانه في هذين الموقفين مع قصر الزمان.
نعم ، في أيام منى حيث إنّها ثلاثة : وهي
أيام عيد وفرح وسرور ، لا حزن وبكاء ، وطبعاً أنّ السامع للبكاء في أيام المسرّات
، يستفزّ إلى الأسباب الموجبة له ، ويتساءل عمّن يندبنه ، وما هي دعوته وأعماله ، ويسأل
عمّن ناوأه ودافعه عن حقّه ، وبهذا الفحص يتجلّى له الحقُّ والطريقة المثلى ؛ لأنّ
نور الله لا يطفى ، والدعوة إليه جليّة البرهان.
وهذا النبأ يتناقله النّاس إلى مَن كان
نائياً عن هذه المواقف عند الإياب إلى مقرّهم ، فيصل إلى الغائبين بهذا الطريق ، وبه
تتم الحُجّة ، فلا يسع كلّ أحد أن يتذرّع بعذر عدم الوصول إلى المدينة ، التي هي
موطن (حُجّة الله (ع» ، ولا من أبلغه خبره ، ولا عرفت دعوة الإمام وضلال مناوئه ، فلا
يبقى حينئد جاهل قاصر على الأغلب.
ومن هنا نفهم السّبب في إعراض الإمام (ع)
عن الوصيّة للنوادب يندبنه بمكّة ، أو في المدينة أيام الحجّ ؛ فإنّه في البلدين
لا تكون الندبة إلا في الدور ، فمن أين يقف الرجال عليهن؟ وكيف يكون هذا البكاء
مشعراً بالغرض المطلوب؟.
[١] التهذيب للشيخ
الطوسي ٢ ص ١٠٨ كتاب المكاسب ، والمنتهى للعلامة الحلي ٢ ص ١١٢ ، والذكرى للشهيد
الأول ـ المبحث الرابع من أحكام الاموات. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه ص ٣٦ : أنه
(ع) أوصى بثمانمئة درهم لمأتمه ، وأن يندب في المواسم عشر سنين.