أنّ الجعل مسبوق
بالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، فيكون الأخير أخصّ من الأوّلين مطلقا ، والأوسط أعمّ
منه وأخصّ من الأوّل مطلقا.
فالقول بأنّ الحكم
العقلي يدلّ على الحكم الشرعي لابدّ وأن يرجع إمّا إلى أنّه يكشف عن المحبوبيّة
والمبغوضيّة الملزومتين لاستحقاق الثواب والعقاب ، أو إلى أنّه يكشف عن المجعول
الواقعي المستلزم لهما ، أو إلى أنّه يكشف عن الطلب الفعلي المستلزم لهما.
ولم نقف في كلامهم
على تحرير لهذه المراتب ، ولعلّه لعدم ثمرة يعتدّ بها في الفرق بينها على ما
سنقرّره.
ثمّ إنّهم ذكروا
في هذا المقام أنّ « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » وظاهر الأكثرين كصريح
البعض كون ذلك بيانا للملازمة بين الحكمين ، مرادا به إحراز الكبرى المذكورة ليتمّ
بها دليليّة الحكم العقلي على الحكم الشرعي ، نظرا إلى استحالة التوصّل بمجرّد
الصغرى المحرزة بحكم العقل ، وهذا بملاحظة أنّ حكم العقل ليس إلاّ مجرّد حكمه
بالحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذمّ يستدعي نوع تصرّف في محمول تلك القضيّة
بإضمار أو استخدام ، فيكون التقدير : « أنّ كلّما حكم به العقل من حسن أو قبح فقد
حكم الشرع بمقتضاه من إيجاب أو تحريم مثلا » لعدم صحّة عود الضمير إلى الموصول
بالمعنى المراد منه ، وإلاّ كان ما حكم به الشرع هو الحسن والقبح ، ولذا فسّر
السيّد الفاضل الشارح للوافية تلك القضيّة من باب بيان حاصل المعنى : « بأنّ كلّ
فعل له جهة مقتضية لحكم خاصّ عند العقل فقد حكم الشارع عليه بمثل ذلك الحكم » ولو
جعلت القضيّة لبيان وجه الملازمة ودليلها ـ كما هو أحد الاحتمالين ـ لم يحتجّ إلى
إضمار ولا استخدام ، لكون المعنى حينئذ : « أنّ ما حكم العقل به من حسن أو قبح فقد
حكم الشرع به أي بذلك الحسن والقبح ».
ومحصّله : أنّ ما
حسّنه العقل أو قبّحه فقد حسّنه الشرع وقبّحه ، وذلك لأنّ الحسن والقبح بالمعنى
المتنازع فيه ـ على ما ذكرناه عند تحرير محلّ النزاع في المقام الأوّل ونقلنا عن
العضدي ـ هو حكم العقل بكون الفعل حسنا أو قبيحا في حكمه تعالى ، واللازم من ذلك
كون كلّ حسن عند العقل محبوبا وكلّ قبيح عند العقل مبغوضا له تعالى ، واللازم من
المحبوبيّة والمبغوضيّة جعل الوجوب والحرمة ثمّ الإيجاب والتحريم الّذي هو الحكم
الشرعي الفعلي ، وهذا هو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، إلاّ أنّه لم نقف من
القوم على من التفت إلى هذا الاحتمال مع أنّه أقرب بالاعتبار.