بحق فلان، أعد بحق فلان، حتّى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتي؛
فأعاده. قال: فقام إليه فأكبّ عليه فلم يبق عضو من أعضائه إلّا قبّله و أهوى إلى
هنه؛ فجعل ابن عائشة يضمّ فخذيه عليه؛ فقال: و اللّه العظيم لا تريم حتّى أقبّله،
فأبداه له فقبّل رأسه، ثم نزع ثيابه فألقاها عليه، و بقي مجرّدا إلى أن أتوه
بمثلها، و وهب له ألف دينار، و حمله على بغلة و قال: اركبها- بأبي أنت- و انصرف،
فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة غنائك؛ فركبها على بساطه و انصرف.
أمر لمحتاج
بمال فأبى إلا سماعه فحكى ذلك للوليد فجعله في ندمائه
و أخبرني
إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الحسن النّخعيّ قال/
حدّثني محمد بن الحارث بن كليب بن زيد الرّبعي قال:
خرج ابن عائشة
المدنيّ من عند الوليد بن يزيد و قد غنّاه:
أبعدك معقلا أرجو و حصنا
قد اعيتني المعاقل و الحصون
- و هي أربعة أبيات، هكذا في الخبر، و لم يذكر
غير هذا البيت منها- قال فأطربه فأمر له بثلاثين ألف درهم و بمثل كارة [1] القصّار
كسوة. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى كان يشتهي الغناء و
يشرب النبيذ، فدنا من غلامه و قال: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغني؛ فدنا
منه و قال: جعلت فداءك، أنت ابن عائشة أمّ المؤمنين؟ قال: لا، أنا مولى لقريش و
عائشة أمّي و حسبك هذا فلا عليك أن تكثر؛ قال: و ما هذا الذي أراه بين يديك من
المال و الكسوة؟ قال: غنّيت أمير المؤمنين صوتا فأطربته فكفر و ترك الصلاة و أمر
لي بهذا المال و هذه الكسوة؛ قال: جعلت فداءك، فهل تمنّ عليّ بأن تسمعني ما أسمعته
إيّاه؟ فقال له: ويلك! أمثلي يكلّم بمثل هذا في الطريق! قال فما أصنع؟ قال: الحقني
بالباب. و حرّك ابن عائشة بغلة شقراء كانت تحته لينقطع عنه؛ فعدا معه حتى وافيا
الباب كفرسي رهان، و دخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا في أن يضجر فينصرف، فلم يفعل؛
فلمّا أعياه قال لغلامه: أخله؛ فلما دخل قال له: ويلك! من أين صبّك اللّه عليّ!
قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء؛ فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك
منه؟ قال: و ما ذاك؟ قال: مائتا دينار و عشرة أثواب تتصرف بها إلى أهلك؛ فقال له:
جعلت فداءك، و اللّه إنّ لي لبنيّة ما في أذنها- علم اللّه-/ حلقة من الورق فضلا
عن الذهب، و إنّ لي لزوجة ما عليها- يشهد اللّه- قميص. و لو أعطيتني جميع ما أمر
لك به أمير المؤمنين على هذه الخلّة [2] و الفقر اللذين عرّفتكهما و أضعفت لي ذلك،
لكان الصوت أعجب إليّ- و كان ابن عائشة تائها لا يغنّي إلّا لخليفة أو لذي قدر
جليل من إخوانه- فتعجّب ابن عائشة منه و رحمه، و دعا بالدّواة [3] و كان يغنّي
مرتجلا، فغنّاه الصوت؛ فطرب له طربا شديدا، و جعل يحرّك رأسه حتى ظنّ أن عنقه سينقصف،
ثمّ خرج من عنده و لم يرزأه شيئا، و بلغ الخبر الوليد بن يزيد فسأل ابن عائشة عنه،
فجعل يغيب عن الحديث. ثم جدّ الوليد به فصدقه عنه، و أمر بطلب الرجل فطلب حتّى
أحضر، و وصله صلة سنيّة، و جعله في ندمائه و وكّله بالسّقي، فلم يزل معه حتّى مات.
[1]
كارة القصار: الثياب التي يجمعها و يحملها، و سميت كارة لأن القصّار يكوّر الثياب
في ثوب واحد و يحملها فيكون بعضها فوق بعض.