ثم انطلقت حتى
وقفت موقفي من عرفات. فبينا أنا كذلك إذ أنا بإنسان قد تغيّر لونه و ساءت هيئته،
فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما، ثم عانقني و بكى حتى اشتدّ بكاؤه.
فقلت: ما وراءك؟ فقال: برح العذل، و طول المطل، ثم أنشأ يقول:
/ فقلت: يا أبا المسهر إنها ساعة تضرب إليها
أكباد الإبل من شرق الأرض و غربها، فلو دعوت اللّه كنت قمنا أن تظفر بحاجتك و أن
تنصر على عدوّك. قال: فتركني و أقبل على الدعاء. فلمّا نزلت الشمس للغروب و همّ
الناس أن يفيضوا سمعته يتكلّم بشيء، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول:
يا ربّ كلّ غدوة و روحه
من محرم يشكو الضّحى و لوحه
أنت حسيب الخلق يوم الدّوحة
الجعد بن
مهجع يذكر لعمر سبب عشقه و مسعى عمر في زواجه من عشقها:
فقلت له: و ما
يوم الدوحة؟ قال: و اللّه لأخبرنّك و لو لم تسألني: فيمّمنا نحو مزدلفة، فأقبل
عليّ و قال: إني رجل ذو مال كثير من نعم و شاء، و ذو المال لا يصدره و لا يرويه
الثّماد [2]. و قطر [3] الغيث أرض كلب، فانتجعت أخوالي منهم، فأوسعوا لي عن صدر
المجلس و سقوني جمّة [4] الماء، و كنت فيهم في خير أخوال. ثم إنّي عزمت على موافقة
إبلي بماء لهم يقال له الحوذان، فركبت فرسي و سمطت [5] خلفي شرابا كان أهداه إليّ
بعضهم ثم مضيت، حتى إذا كنت بين الحيّ و مرعى النّعم رفعت [6] لي دوحة عظيمة،
فنزلت عن فرسي و شددته بغصن من أغصانها و جلست في ظلّها. فبينا أنا كذلك إذ سطع
غبار من ناحية الحيّ و رفعت لي شخوص/ ثلاثة، ثم تبيّنت فإذا فارس يطرد مسحلا [7] و
أتانا، فتأمّلته فإذا عليه درع أصفر و عمامة خزّ سوداء، و إذا فروع شعره تضرب
خصريه، فقلت: غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذّة الصيد فترك ثوبه و لبس ثوب امرأته.
فما جاز عليّ إلا يسيرا حتى طعن المسحل و ثنّى طعنة للأتان فصرعهما، و أقبل راجعا
نحوي و هو يقول:
[1]
قف: يبس، يريد التأم. يقول: لو أني حاولت الذي بي و تكلفته لسهل على أن أبرأ منه،
و لكنه قدر من اللّه لا محيص منه.
[2] الثماد:
جمع ثمد (بالتحريك و بالفتح) و هو الماء القليل الذي لا مادّ له.
[3] كذا في
«ج». و في «سائر الأصول»: «و نضر الغيث» و هو تحريف.