و غلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة [1] من الزمان و أخذ
جواريه أكثر غنائها عنها، فكان لمحبّته إيّاها و أسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار
معبد و أين مستقرّه، و يظهر التعصّب له و الميل إليه و التقديم لغنائه على سائر
أغاني أهل عصره إلى أن عرف ذلك منه. و بلغ معبدا خبره، فخرج من مكة حتى أتى
البصرة، فلمّا وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك اليوم إلى الأهواز فاكترى
سفينة. و جاء معبد يلتمس سفينة ينحدر فيها إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل،
و ليس يعرف أحد منهما صاحبه، فأمر الرجل الملّاح أن يجلسه معه في مؤخّر السفينة
ففعل و انحدروا. فلما صاروا في فم نهر الأبلّة [2]/ تغدّوا و شربوا، و أمر جواريه
فغنّين، و معبد ساكت و هو في ثياب السّفر، و عليه فرو و خفّان غليظان و زيّ جاف
من/ زيّ أهل الحجاز، إلى أن غنّت إحدى الجواري:
- قال حمّاد: و الشعر للنابغة الذّبيانيّ. و
الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و فيه لغيره ألحان قديمة و محدثة- فلم تجد
أداءه، فصاح بها معبد: يا جارية، إنّ غناءك هذا ليس بمستقيم. قال: فقال له مولاها
و قد غضب: و أنت ما يدريك الغناء ما هو؟ أ لا [5] تمسك و تلزم شأنك! فأمسك. ثم
غنّت أصواتا من غناء غيره و هو ساكت لا يتكلّم، حتى غنّت:
صوت
بابنة الأزديّ قلبي كئيب
مستهام عندها ما ينيب
و لقد لاموا فقلت دعوني
إنّ من تنهون عنه حبيب
إنّما أبلى عظامي و جسمي
حبّها و الحبّ شيء عجيب
[1]
قال ابن السكيت: البرهة بالفتح و الضم: الزمان الطويل، و قال غيره: الزمان مطلقا.
[2] الأبلّة:
بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة. و
يقال فيه: الأبلة بفتح الهمزة و الباء (ياقوت).
[3] كذا في
ح، ر. و ب، س: «الغور فالأجراع» بالراء المهملة. و في أكثر النسخ الخطية: «الغور و
الأجزاع». و «الغور»: المطمئن من الأرض، و «الأجراع»: جمع جرع و هو مفرد أو هو
جرعة، و هي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها. و «إضم» بكسر ففتح:
واد بجبل
تهامة، و هو الوادي الذي فيه المدينة. و قد ورد هذا البيت في «ديوان النابغة»
المطبوع بباريس هكذا:
بانت سعاد و أمسى حبلها انجذما
و احتلت الشّرع فالأجزاع من إضما
و «شرع»:
قرية على شرقيّ ذرة مزارع و نخيل على عيون، و واديها يقال له: رخيم. و «الأجزاع»:
جمع جزع بالكسر- و قال أبو عبيدة: اللائق به أن يكون مفتوحا-: منعطف الوادي. و في
«التاج» مادة «أضم»
و احتلت الشرع فالخبتين من إضما
و الخبت:
المتسع من بطون الأرض. (انظر ياقوت و «القاموس» و «شرحه» في هذه المواد).
[4] «بليّ»
كغنيّ: اسم قبيلة. و السفاه: الطيش و خفة الحلم. و الذكرة (بالكسر و الضم): نقيض
النسيان. و في ت: