فلم يتكلّم إلى هاهنا في هذا الكتاب بما يدلّ على إثباتها، إنّما
اورد حكايات الحرنانيّة فيها فقط و ذكرها عند قسمة الجوهر على رأى الفلاسفة
بأسمائها فقط.
قال:
القول في الملائكة و الجن و الشياطين
قال المتكلّمون: إنّها أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال
مختلفة.
و الفلاسفة و أوائل المعتزلة أنكروها، قالوا: لأنّها إن كانت لطيفة
بمنزلة الهواء، وجب أن لا يكون لها قوّة على شيء من الأفعال، و أن تفسد تراكيبها
بأدنى شيء.
و إن كانت كثيفة، وجب أن نشاهدها، و إلّا، لجاز أن يكون بحضرتنا
جبال، و لا نراها. و الجواب: لم لا يجوز أن تكون لطيفة، بمعنى عدم اللون، لا بمعنى
رقّة القوام، سلّمنا أنّها كثيفة، لكن بيّنا أنّ إبصار الكثيف عند الحضور غير
واجب. و أمّا الفلاسفة، فقد زعموا أنّها لا متحيّزة، و لا قائمة بالمتحيّز. ثمّ
اختلفوا، فالأكثرون قالوا: إنّها ماهيّات مخالفة بالنوع للأرواح البشريّة، و منهم
من يقول: الأرواح البشريّة التى فارقت أبدانها، إن كانت شرّيرة، كانت شديدة
الانجذاب إلى ما يشاكلها من النفوس البشريّة فتتعلق ضربا من التعلّق بأبدانها و
تعاونها على أفعال الشرّ. فذاك هو الشياطين، و إن كانت خيّرة، كان الأمر بالعكس. و
اللّه أعلم بحقائق الامور.
أقول: نقل عن المعتزلة أنّهم قالوا: الملائكة و الجنّ و الشياطين متّحدون
في النوع، و مختلفون باختلاف أفعالهم. أمّا الذين لا يفعلون إلّا الخير، فهم
الملائكة. و أمّا الذين لا يفعلون إلّا الشرّ، فهم الشياطين. و أمّا الذين يفعلون
تارة هذا و تارة ذاك، فهم الجنّ. و لذلك عدّ إبليس تارة في الملائكة و تارة في
الجنّ.