عمد إلى «الهيولى» بعد تعلّق النفس بها، فركّبها ضروبا من التراكيب، مثل السماوات، و
العناصر و ركّب أجسام الحيوانات على الوجه الأكمل. و الّذي بقى فيها من الفساد،
فذلك لأنّه لا يمكن إزالته. ثمّ إنّه تعالى أفاض على النفس عقلا و إدراكا، و صار
ذلك سببا لتذكّرها عالمها، و سببا لعلمها بأنّها ما دامت في العالم الهيولانى لا
تنفكّ عن الآلام. و إذا عرفت النفس ذلك و عرفت أنّ لها في عالمها اللّذات الخالية
عن الآلام اشتاقت إلى ذلك العالم، و عرجت [عليه] بعد المفارقة، و بقيت هناك أبد
الآباد في نهاية البهجة و السعادة.
قالوا: و بهذا الطريق زالت الشبهات الدائرة بين القائلين بالقدم و
الحدوث، فانّ أصحاب القدم قالوا: لو كان العالم محدثا فلم أحدثه اللّه تعالى في
هذا الوقت المعيّن، و ما أحدثه قبل ذلك و لا بعده؟ و إن كان خالق العالم حكيما فلم
ملأ الدنيا من الآفات؟ و أصحاب الحدوث قالوا: لو كان العالم قديما لكان غنيّا عن
الفاعل.
و هذا باطل قطعا، لما نرى أنّ آثار الحكمة ظاهرة في العالم. و
تحيّر الفريقان في ذلك. و أمّا على هذا الطريق فالاشكالات زائلة، لأنّا لما
اعترفنا بالصانع الحكيم لا جرم قلنا بحدوث العالم. فاذا قيل: و لم احدث العالم في
هذا الوقت؟ قلنا: لأنّ النفس إنّما تعلّقت بالهيولى في ذلك الوقت، و علم البارى
تعالى أنّ ذلك التعلّق سبب الفساد، إلّا أنّه بعد وقوع المحذور صرفه إلى الوجه
الأكمل بحسب الامكان. و أمّا الشرور الباقية فانّما بقيت لأنّه لا يمكن تجريد هذا
التركيب عنها.
بقى هاهنا سؤالان: أحدهما أن يقال: لم تعلّقت النفس بالهيولى بعد
أن كانت غير متعلقة بها؟ فان حدث ذلك التعلّق بكلّيته لا عن سبب فجوّز حدوث العالم
بكلّيته لا عن سبب. و الثاني أن يقال: فهلّا منع البارى تعالى النفس من التعلّق
بالهيولى.
أجابوا عن الأوّل بأنّ هذا السؤال غير مقبول من المتكلّمين، لأنّهم
يقولون:
القادر المختار قد يرجّح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجّح،
فهلّا جوّزوا