فإن قلت مقتضى ما ذكر ، كون النفس
الإنسانية عاقلة لكل معقول ، لتجردها وهو خلاف الضرورة.
قلت هو كذلك ، لكن النفس مجردة ذاتا لا
فعلا ، فهي لتجردها ذاتا تعقل ذاتها بالفعل ، لكن تعلقها فعلا ، يوجب خروجها من
القوة إلى الفعل تدريجا ، بحسب الاستعدادات المختلفة ، فإذا تجردت تجردا تاما ، ولم
يشغلها تدبير البدن ، حصلت لها جميع العلوم حصولا بالعقل الإجمالي ، وتصير عقلا
مستفادا بالفعل.
وغير خفي أن هذا البرهان ، إنما يجري في
الذوات المجردة الجوهرية ، التي وجودها لنفسها ، وأما أعراضها التي وجودها لغيرها
، فلا بل العاقل لها موضوعاتها.
الفصل الثاني
عشر
في العلم
الحضوري وأنه لا يختص بعلم الشيء بنفسه
قد تقدم أن الجواهر المجردة ، لتمامها وفعليتها
حاضرة في نفسها لنفسها ، فهي عالمة بنفسها علما حضوريا ، فهل يختص العلم الحضوري
بعلم الشيء بنفسه ، أو يعمه وعلم العلة بمعلولها إذا كانا مجردين ، وبالعكس
المشاءون ، على الأول ، والإشراقيون ، على الثاني وهو الحق.
وذلك لأن وجود المعلول كما تقدم [١] ، رابط لوجود العلة قائم به غير مستقل
عنه ، فهو إذا كانا مجردين ، حاضر بتمام وجوده عند علته لا حائل بينهما ، فهو بنفس
وجوده معلوم لها علما حضوريا.
وكذلك العلة حاضرة بوجودها ، لمعلولها
القائم بها المستقل باستقلالها ، إذا كانا مجردين من غير حائل يحول بينهما ، فهي
معلومة لمعلولها علما حضوريا ، وهو المطلوب.