القاعدة الثانية عشرة في
كون الباري متكلما بكلام أزلي[1]
و لما لم نجد في الملة
الإسلامية من يخالفنا في كون الباري تعالى متكلما بكلام قدمنا هذه المسألة و إن
جرت العادة بتقديم المسألة الأخيرة و لم يخالفنا في ذلك إلا الفلاسفة و الصابئة و
منكرو النبوات و طرق متكلمي الإسلام تختلف.
فطريق الأشعرية: أن قالوا
دل العقل على كون الباري تعالى حيا و الحي يصح منه أن يتكلم و يأمر و ينهى كما يصح
منه أن يعلم و يقدر و يريد و يسمع و يبصر، فلو لم يتصف بالكلام أدى إلى أن يكون
متصفا بضده و هو الخرس و العي و الحصر و هي نقائض و يتعالى عنها.
و الذي يتحقق هذه الطريقة
قولهم: قد ثبت بدليل العقل أنه ملك مطاع، و من حكم الملك أن يكون منه أمر و نهي،
كما دل تردد الخلق في صنوف التغايير و الحوادث و الجائزات على كون الباري تعالى
قادرا عالما دل تردد الخلق في صنوف الأمر و النهي على أمر الباري و نهيه و كما جرى
في ملكه تقديره جرى على عباده تكليفه و كما تصرف في الموجودات الجبرية جبرا و قهرا
تصرف في الموجودات الاختيارية تكليفا و تعريفا.
و قد سلك الأستاذ أبو
إسحاق الأسفراييني رحمه اللّه منهاجا آخر فقال: دلت الأفعال بإتقانها و إحكامها
على أنه تعالى عالم و يستحيل أن يعلم شيئا و لا يخبر عنه، فإن الخبر و العلم
يتلازمان، فلا يتصور وجود أحدهما دون الثاني و من لا خبر عنده عن معلومه لا يمكنه
أن يخبر غيره عنه، و من المعلوم أن الباري يصح منه التكليف و التعريف و الإخبار و
التنبيه و الإرشاد و التعليم، فوجب أن يكون له كلام و قول يكلف و يعرف و يخبر و
ينبه بذلك فإذا ثبتت هذه الدلائل كونه متكلما.
فنقول: إما أن يقال هو
متكلم لنفسه أو متكلم بكلام ثم إن كان متكلما بكلام فإما أن يكون كلامه قديما أو
حادثا، و إن كان حادثا فإما أن يحدث في ذاته أو في محل
[1] انظر: شرح قصيدة
ابن قيم لابن عيسى (1/ 295، 298)، و شفاء العليل لابن قيم
[153] ، و غاية المرام
للآمدي (ص 88، 104)، و مقالات الإسلاميين للأشعري (ص 601، 603)، و الملل و النحل
للمصنف (1/ 80)، و التمهيد للباقلاني (ص 299).