نوع الإنسان ليس يخلو من
قوتي الشهوة و الغضب، و هما ينزعان إلى البهيمية و السبعية، و ينازعان النفس
الإنسانية إلى طباعها. فيثور من الشهوية: الحرص و الأمل.
و من الغضبية: الكبر و
الحسد، إلى غير هما من الأخلاق الذميمة. فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة
المطهرين عنهما و عن لوازمهما و لواحقهما؟! صافية أوضاعهم عن النوازع الحيوانية
كلها، خالية طباعهم عن القواطع البشرية بأسرها، لم يحملهم الغضب على حب الجاه، و
لا حملتهم الشهوة على حب المال، بل طباعهم مجبولة على المحبة و الموافقة، و
جواهرهم مفطورة على الألفة و الاتحاد.
أجابت الحنفاء:
بأن هذه المغالطة مثل
الأولى حذو النعل بالنعل[1]، فإن في طرف البشرية نفسين: نفس حيوانية لها قوتان: قوة الغضب، و
قوة الشهوة. و نفس إنسانية لها قوتان:
قوة علمية، و قوة عملية. و
بتينك القوتين لها أن تجمع و تمنع، و بهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور و تفصل
الأحوال. ثم تعرض الأقسام و الأحوال على العقل. فيختار العقل الذي هو كالبصر
النافذ له، من العقائد: الحق دون الباطل. و من الأقوال: الصدق دون الكذب. و من
الأفعال: الخير دون الشر، و يختار بقوته العملية من لوازم القوة الغضبية:
الشدة، و الشجاعة، و
الحمية؛ دون الذلة و الجبن و النذالة. و يختار بها أيضا من لوازم القوة الشهوية:
التآلف، و التودّد، و البذاذة[2] دون الشره، و المهانة، و الخساسة.
فيكون من أشد الناس حمية
على خصمه و عدوه، و من أرحم الناس تذللا و تواضعا لوليّه و صديقه. و إذا بلغ هذا
الكمال فقد استخدم القوتين، و استعملهما في جانب الخير.
ثم يترقى منه إلى إرشاد
الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق، و إطلاقها عن قيد الشهوة و الغضب، و إبلاغها
إلى حد الكمال.
[1] الحذو: التقدير و
القطع، و في الحديث: لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، أي تعملون مثل
أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر الأخرى. (انظر لسان العرب مادة حذا).
[2] البذاذة: رثاثة
الهيئة، و في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه و سلم: البذاذة من الإيمان؛ قال
الكسائي: البذاذة هو أن يكون الرجل متقهّلا رثّ الهيئة.