الخمر من خمر الجنّة أو من جنس خمر الدنيا؟ فإن كان الأول فسبب تجنّبها صورتها و مضاهاتها للخمر المحرّمة، و يكون ذلك أبلغ في الورع. و إن كان الثاني فاجتنابها واضح.
و على التقدير الأول يستفاد منه فائدة: و هو أن من وضع من الماء و نحوه من الأشربة ما يضاهي الخمر في الصورة و هيّأه بالهيئة التي يتعاطاها [بها] أهل الشهوات من الاجتماعات و الآلات فقد أتى منكرا و إن كان لا يحدّ. و ذكر أصحابنا أن إدارة كأس الماء على شاربه تشبّها بشارب الخمر حرام، و يعزّر فاعله.
التنبيه الثالث و العشرون:
قال ابن دحية: اعلم أن التّخيير قد يكون بين واجبين كخصال الكفّارة و قد يكون بين مباحين، و أما التّخيير بين واجب و ممنوع أو مباح و ممنوع فمستحيل، فانظر في إحضار اللبن و الخمر، هل أريد به الإباحة لهما و الإذن فيهما؟ كما لو أحضرت طعامين لضيف و أبحتهما له، فما معنى إختياره لأحدهما؟ و ما معنى قول جبريل:
«اخترت الفطرة» أو «أصبت، أصاب اللّه بك»؟ و إن كان المراد الإذن في أحدهما لا بعينه، بحيث يكون الآخر ممنوعا لزم التّحيير بين ممنوع و مباح، و ذلك لا يتصوّر، و الذي يرفع الإشكال إن شاء اللّه تعالى أن يكون المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحرّم منها و تحليل ما يحلّ إلى اجتهاد النبي (صلّى اللّه عليه و سلم) و سداد نظره المعصوم. فلما نظر فيها أدّاه اجتهاده إلى تحريم الخمر و تحليل اللبن، فوافق الصواب في علم اللّه تعالى، فقال له جبريل: «أصبت»، و على تقدير ألا تكون الخمر محرّمة لأنها إنما حرّمت بالمدينة فيكون توقّيها ورعا و تعريضا بأنها ستحرّم.
التنبيه الرابع و العشرون:
قال أبو الخطّاب الكلبي: «الفطرة تطلق على الإسلام و تطلق على أصل الخلقة، فمن الأول
قوله (صلّى اللّه عليه و سلم): «كل مولود يولد على الفطرة» [1].
و من الثاني قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30]، و قال تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [فاطر: 1]، أي مبدئ خلقهما، و قول جبريل: «اخترت الفطرة» أي اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة و به ينبت اللحم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام، و أما الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر، و قد تكون الإشارة بتقديم اللبن إلى أن شعار العلم في التعبير،
كما ورد أنه (عليه الصلاة و السلام) قال: «رأيت كأني أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أرى الرّيّ يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب»، قالوا: يا رسول اللّه ما أوّلته؟
و الإسراء و إن كان يقظة إلا ربما وقعت في اليقظة إشارة إلى حكم الفأل يعبّر كما يعبّر في المنام. و لهذا كان النبي (صلّى اللّه عليه و سلم) يحب الفأل الحسن، فكأنه لما ملئ قلبه إيمانا و حكمة أردف