الغضب فلم يطابق أن لو ختم بما يصرّح بالعذاب و الغضب، فجاءوا بما يدل على المراد على سبيل الكناية.
و قولهم: «محمّد فرق بين الناس» كالتذييل للكلام السّابق، لأنه مشتمل على معناه و مؤكد له في حضور الملائكة و رجع بعض الكلام على بعض، و تمثيلهم ذلك و وضعهم المظهر موضع المضمر في مواضع من الحديث، و تكرير الألفاظ مرة بعد أخرى، و في تقديم المجمل ممثّلا به و تأويله، دلالة على الإرشاد التام و إزاحة للعلل و إيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة و سنة الجهالة، و حثّ لهم على الاعتصام بالكتاب و السّنة و الإعراض عما يخالفهما من البدعة و الضلالة.
المأدبة: قال ابن خطيب الدّهشة في تقريبه بالفتح و الضم: الطعام يدعى إليه الناس.
أوّلوها: أي فسّروا الحكاية أو التمثيل بمحمد (صلّى اللّه عليه و سلم)، من أوّل تأويلا إذا فسّر بما يؤول إليه الشيء، و التأويل في اصطلاح العلماء: تفسير اللفظ بما يحتمله احتمالا غير بيّن.
فرّق: روى بالتشديد أي على صيغة الفعل و بالسكون على المصدر وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن و الكافر و الصالح و الفاسق، إذ به تميزت الأعمال و العمّال.
الرابع: في بعض فوائد الحديث الرابع:
قوله (صلّى اللّه عليه و سلم):
«مثلي»
أي في دعاء الناس إلى الإسلام المنقذ لهم من النار و مثل ما تزيّن لهم أنفسهم من التمادي على الباطل
«كمثل رجل»
إلى آخره و المراد تفسير الجملة بالجملة، لا تمثيل فرد بفرد.
قال النووي: مقصود الحديث أنه (صلّى اللّه عليه و سلم) شبّه تساقط الجاهلين و المخالفين بمعاصيهم و شهواتهم في نار الآخرة و حرصهم على الوقوع في ذلك و منعه إياهم، و الجامع بينهما اتباع الهوى و ضعف التمييز و حرص كل من الطائفتين على هلاك نفسه.
و قال القاضي: أبو بكر بن العربي: هذا مثل كثير المعاني، و المقصود أن الخلق لا يأتون ما يجرّهم إلى النار على قصد الهلكة، و إنما يأتونه على قصد المنفعة و اتباع الشهوة، كما أن الفراش يقتحم النار لا ليهلك فيها بل لما يعجبه من الضياء، و قد قيل إنها لا تبصر بحال و هو بعيد. و إنما قيل إنها تكون في ظلمة فإذا رأت الضياء اعتقدت أنه كوّة يستظهر منها النور فتقصده لأجل ذلك فتحترق و هي لا تشعر، و قيل إن ذلك لضعف بصرها فتظن أنها في بيت مظلم و أن السراج كوّة فترمي نفسها إليها و هي من شدة طيرانها تجاوزه فتقع في الظّلمة فترجع فتحترق.