و لو كشف الغطاء، لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة، و هي في أسرها و قبضتها تسوقها حيث شاءت، و لا يمكنها الامتناع عنها و لا مخالفتها، و بها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة و المعاينة، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة، و بالله المستعان.
و علاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، و أن تكون الجنة و النار نصب عينيه و قبلة قلبه، و يستحضر أهل الدنيا، و حلول المثلات و الآفات بهم، و وقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر، و هم صرعى لا يفيقون، و ما أشدّ داء هذا الصرع، و لكن لما عمّت البليّة به بحيث لا يرى إلا مصروعا، لم يصر مستغربا و لا مستنكرا، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه.
فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة، و نظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا و شمالا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، و منهم من يفيق أحيانا قليلة، و يعود إلى جنونه، و منهم من يفيق مرة، و يجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة و العقل، ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط.
فصل
و أما صرع الأخلاط، فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال و الحركة و الانتصاب منعا غير تام، و سببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة، فيمتنع نفوذ الحس و الحركة فيه و في الأعضاء نفوذا تاما من غير انقطاع بالكلية، و قد تكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفية لاذعة، فينقبض الدماغ لدفع المؤذي، فيتبعه تشنّج في جميع الأعضاء، و لا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا، بل يسقط، و يظهر في فيه الزبد غالبا.
و هذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة، و قد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها، و عسر برئها، لا سيما إن تجاوز في السن خمسا و عشرين سنة، و هذه العلة في دماغه، و خاصة في جوهره، فإن صرع هؤلاء يكون لازما. قال أبقراط: إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا.
إذا عرف هذا، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع و تتكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع، فوعدها النبي- (صلّى اللّه عليه و سلّم)- الجنة بصبرها على هذا المرض، و دعا لها