و قوله: هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص 35]. لم يفعل هذا سليمان غيرة على الدنيا و لا نفاسة بها، و لكن مقصده في ذلك- على ما ذكره المفسرون- ألا يسلّط عليه أحد كما سلّط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدّة امتحانه على قول من قال ذلك.
و قيل: بل أراد أن يكون له من اللّه فضيلة و خاصة يختصّ بها كاختصاص غيره من أنبياء اللّه و رسله بخواصّ منه.
و قيل: ليكون ذلك دليلا و حجّة على نبوّته، كإلانة الحديد لأبيه، و إحياء الموتى لعيسى، و اختصاص محمد (صلّى اللّه عليه و سلّم) بالشفاعة، و نحو هذا.
و أما قصة نوح (عليه السلام) فظاهرة العذر، و إنه أخذ فيها بالتأويل و ظاهر اللّفظ، لقوله تعالى: وَ أَهْلَكَ، فطلب مقتضى هذا اللفظ، و أراد علم ما طوي عليه من ذلك، لا أنه شكّ في وعد اللّه تعالى، فبيّن اللّه عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره و عمله الذي هو غير صالح، و قد أعلمه أنه مغرق الذين ظلموا، و نهاه عن مخاطبته فيهم، فووخذ بهذا التأويل، و عتب عليه، و أشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه، و كان نوح- فيما حكاه النقاش- لا يعلم بكفر ابنه.
و قيل في الآية غير هذا، و كلّ هذا لا يقضي على نوح بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله و إقدامه بالسؤال فيما لم يؤذن له فيه، و لا نهي عنه.
و ما روي في الصحيح من أنّ نبيّا قرصته نملة فحرّق قرية النمل، فأوحى اللّه إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبّح ... فليس في هذا الحديث أنّ هذا الذي أتّى معصية، بل فعل ما رآه مصلحة و صوابا بقتل من يؤذي جنسه، و يمنع المنفعة مما أباح اللّه.
ألا ترى أنّ هذا النبيّ كان نازلا تحت الشجرة، فلما آذته النملة تحوّل برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه و ليس فيما أوحى اللّه إليه ما يوجب معصية، بل ندبه إلى احتمال الصّبر و ترك التّشفي، كما قال تعالى: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، إذ ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصّته، فكان انتقاما لنفسه، و قطع مضرّة يتوقّعها من بقيّة النمل هناك، و لم يأت في كلّ هذا أمرا نهي عنه، فيعصّى به، و لا نصّ فيما أوحى اللّه إليه بذلك، و لا بالتوبة و الاستغفار منه. و اللّه أعلم.
فإن قيل: فما معنى
قوله (عليه السلام): ما من أحد إلّا ألمّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا، أو كما قال النبي (صلّى اللّه عليه و سلّم).