يعد عند الأكثرين من تضييع الأوقات، لأن المعارف عندهم خرافات، فإنا قد انتهينا إلى زمان يرون الأدب عيبا، و يعدّون التضلع من الفنون ذنبا، و إلى اللّه الحنّان المشتكي من هذا الزمان، قد سلّ سيف بغيه و عدوانه، على من تحلى بالفضائل و تقدم على أقرانه، و أوفق نبله لكل ذي نبل ظاهر و شرف باهر، فالتبس الدر بالزجاج، و اشتبه العذب بالأجاج، و ضاع أرباب الألباب كالذباب في الضباب، فصارت المعارف طيف خيال، أو ضيفا على شرف ارتحال، و ضعف أساس العلم و بنيانه، و تضعضعت أركانه، و خمدت ناره، و كادت أن تمحى آثاره:
و كان سرير العلم صريحا ممردا* * * يناغي القباب السبع و هي عظام
متينا رفيعا لا يطار غرابه* * * عزيزا منيعا لا يكاد يرام
يلوح سنا برق الهدى من بروجه* * * كبرق بدا بين السحاب يشام
فجرّت عليها الرامسات ذيولها* * * فخرت عروش منه ثم دعام
محا الذاريات اليوم آيات حسنه* * * فلم يبق منه آية و وسام
و ممن شكا حال العلوم الفلسفية في هذا القرن الحكيم داود الأنطاكي صاحب التذكرة في الطب، و كان قد نزل بمصر فقال فيها: ثم لم ألبث أن هبطت مصر هبوط آدم من الجنة، لما وجدتها كما قال أبو الطيب ملاعب جنة، فكأنها مغاني الشّعب، و أنا المعنيّ فيها بقوله:
و لكن الفتى العربي فيها* * * غريب الوجه و اليد و اللسان
تنبو عن قبول الحكمة فيها طباع الرجال، نبوّ قيناتهم الحسان لحى شيب القذال، ثم تمثل:
ما مقامي بأرض نخلة إلا* * * كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها اللّ* * * ه غريب كصالح في ثمود
و قد طعن أهل مصر في عقيدته لاشتغاله بعلوم الفلسفة، فلما كثر كلام الناس في اعتقاده ارتحل منها إلى مكة.
و بهذا ازداد العلم هوانا في هذا القرن أمام جهلة المتصوفة.
المؤلف و الكتاب اسمه و كنيته
و هو شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن يوسف الصالحي الشامي.
قال الشعراني في ذيل طبقاته.
«كان عالما صالحا مفنّنا في العلوم، و ألف السيرة النبوية التي جمعها من ألف