و في رواية: لما انكشف الناس عنه يوم حنين قال لحارثه، بالحاء المهملة، ابن النعمان: يا حارثة كم ترى الناس الذين ثبتوا؟ فحزرتهم مائة، فقلت: يا رسول اللّه مائة، فلما كان يوم من الأيام مررت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) و هو يناجي جبريل (عليه السلام) عند باب المسجد، فقال جبريل (عليه السلام): يا محمد من هذا؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم): حارثة بن النعمان، فقال جبريل (عليه السلام): هو أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت (عليه السلام). قال: فلما أخبرني بذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم). قلت له: ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقفا معك.
و في رواية: لما فر الناس يوم حنين عن النبي (صلى اللّه عليه و سلم) لم يبق معه إلا أربعة: ثلاثة من بني هاشم، و رجل من غيرهم: علي بن أبي طالب، و العباس و هما بين يديه، و أبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، و ابن مسعود من جانبه الأيسر، و لا يقبل أحد من المشركين جهته (صلى اللّه عليه و سلم) إلا قتل.
و ذكر بعضهم أنه رأى أبا سفيان بن الحارث حينئذ آخذا بزمام بغلته (صلى اللّه عليه و سلم)، و لا ينافي ما تقدم أن الآخذ بذلك العباس رضي اللّه عنه، و أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بركابه (صلى اللّه عليه و سلم)، لجواز أن يكون آخذ بزمامها بعد أخذه بركابه (صلى اللّه عليه و سلم).
و عن أبي سفيان بن الحارث قال: لما لقينا العدو بحنين اقتحمت عن فرسي و بيدي السيف مصلتا و اللّه يعلم أني أريد الموت دونه و هو ينظر إليّ، فقال له العباس: يا رسول اللّه أخوك و ابن عمك أبو سفيان فارض عنه، فقال: غفر اللّه له كل عداوة عادانيها ثم التفت إليّ و قال: يا أخي، فقبلت رجله في الركاب و قال (صلى اللّه عليه و سلم) في حقه «أبو سفيان بن الحارث من شبان أهل الجنة أو من سيد فتيان أهل الجنة» و ليس قوله (صلى اللّه عليه و سلم):
أنا النبي لا كذب
إلى آخره من الشعر، لأن شرطه كما تقدم في بناء المسجد أن يكون عن قصد و روية، بناء على أن مشطور الرجز و منهوكه شعر و هو الصحيح، خلافا للأخفش حيث ردّ على الخليل في قوله: إن الرجز شعر بأنه وقع منه (صلى اللّه عليه و سلم) في قوله المذكور، و قد قال اللّه تعالى وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69].
و ردّ بأن ما يقع موزونا لا عن قصد لا يقال له شعر. و لا يقال لقائله إنه شاعر كما تقدم مع زيادة، و أنما قال (صلى اللّه عليه و سلم): «أنا ابن عبد المطلب» و لم يقل أنا ابن عبد اللّه، لأن العرب كانت تنسبه (صلى اللّه عليه و سلم) إلى جده عبد المطلب لشهرته، و لموت عبد اللّه في حياته كما تقدم، فليس من الافتخار بالآباء الذي هو من عمل الجاهلية كما تقدم في قوله (صلى اللّه عليه و سلم): «أنا ابن العواتك و الفواطم». و أخذ من هذا أنه لا بأس بالانتساب في موطن الحرب.