بعضهم المتقدم قاتل فيها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم)، و قد علمت المراد منه و اللّه أعلم.
و لا يخفى أنه (صلى اللّه عليه و سلم) مكث بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة بغير قتال، صابرا على شدة أذية العرب بمكة، و اليهود بالمدينة له (صلى اللّه عليه و سلم) و لأصحابه لأمر اللّه تعالى له بذلك:
أي بالإنذار و الصبر على الأذى و الكف بقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: الآية 63] و بقوله وَ اصْبِرْ [المزمل: الآية 10] و وعده بالفتح، أي فكان يأتيه أصحابه بمكة ما بين مضروب و مشجوج فيقول (صلى اللّه عليه و سلم) لهم «اصبروا، فإني لم أومر بالقتال» لأنهم كانوا بمكة شر ذمة قليلة. ثم لما استقر أمره (صلى اللّه عليه و سلم): أي بعد الهجرة و كثرت أتباعه، و شأنهم أن يقدموا محبته على محبة آبائهم و أبنائهم و أزواجهم، و أصرّ المشركون على الكفر و التكذيب أذن اللّه تعالى لنبيه (صلى اللّه عليه و سلم) أي و لأصحابه في القتال، أي و ذلك في صفر من السنة الثانية من الهجرة، لكن لمن قاتلهم و ابتدأهم به بقوله فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: الآية 191] قال بعضهم: و لم يوجبه بقوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الحجّ: الآية 39] أي للمؤمنين أن يقاتلوا بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحجّ: الآية 39] أي بسبب أنهم ظلموا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحجّ: الآية 39]، أي فكان ذلك القتال عوضا من العذاب الذي عوملت به الأمم السالفة لما كذبت رسلهم.
و ذكر في سبب نزول قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النّساء:
الآية 77] الآية «أن جماعة منهم عبد الرحمن بن عوف، و المقداد بن الأسود، و قدامة بن مظعون، و سعد بن أبي وقاص، و كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة، فقالوا: يا رسول اللّه كنا في عز و نحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فأذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم، فإني لم أومر بقتالهم. فلما هاجر (صلى اللّه عليه و سلم) إلى المدينة و أمر بالقتال للمشركين كرهه بعضهم و شق عليه ذلك، فأنزل اللّه تعالى الآية».
لا يقال: يدل لما تقدم من أنه قاتل (صلى اللّه عليه و سلم) بنفسه في تلك الغزوات ما جاء عن بعض الصحابة «كنا إذا لقينا كتيبة أو جئنا أول من يضرب النبي (صلى اللّه عليه و سلم)» لأني أقول لا يبعد أن يكون المراد بالضرب السير في الأرض: أي أول من يسير إلى تلقاء العدو.
و يؤيده ما جاء عن عليّ رضي اللّه تعالى عنه «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم)، و كان أشد الناس بأسا، و ما كان أحد أقرب إلى المشركين منه (صلى اللّه عليه و سلم)».
و في رواية «كنا إذا حمي البأس و التقى القوم بالقوم اتقينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم)، أي كان وقاية لنا من العدوّ».
و قد نقل إجماع المسلمين على أنه لم يرو أحد قط أنه (صلى اللّه عليه و سلم) انهزم بنفسه في موطن من المواطن، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه (صلى اللّه عليه و سلم) و ثباته في جميع المواطن.
لا يقال: سيأتي في غزوة بدر عن السيرة الهشامية غير معزوّ لأحد أنه قاتل