responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القران نویسنده : سيد قطب    جلد : 6  صفحه : 3906
بل أنتم- على العكس- تأكلون الميراث أكلا شرها جشعا وتحبون المال حبا كثيرا طاغيا، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام.
وقد كان الإسلام يواجه في مكة- كما ذكرنا من قبل- حالة من التكالب على جمع المال بكافة الطرق، تورث القلوب كزازة وقساوة. وكان ضعف اليتامى مغريا بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث منهم في صور شتى وبخاصة ما يتعلق بالميراث (كما سبق بيانه في مواضع متعددة في الظلال) كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام. وهي سمة الجاهليات في كل زمان ومكان! حتى الآن! وفي هذه الآيات فوق الكشف عن واقع نفوسهم، تنديد بهذا الواقع، وردع عنه، يتمثل في تكرار كلمة «كَلَّا» كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه، وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه:
«وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا!» ..
وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء، يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته، بعد الابتلاء ونتيجته، في إيقاع قوي شديد:
«كَلَّا. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا. وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ»
..
ودك الأرض، تحطيم معالمها وتسويتها وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة. فأما مجيء ربك والملائكة صفا صفا، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الأرض. ولكنا نحس وراء التعبير بالجلال والهول. كذلك المجيء بجهنم. نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى. فأما حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم.
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم، الشديدة الأسر، مشهد ترجف له القلوب، وتخشع له الأبصار. والأرض تدك دكا دكا! والجبار المتكبر يتجلى ويتولى الحكم والفصل، ويقف الملائكة صفا صفا. ثم يجاء بجهنم فتقف متأهبة هي الأخرى! «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» .. الإنسان الذي غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء. والذي أكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جما. والذي لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين. والذي طغى وأفسد وتولى..
يومئذ يتذكر. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى.. ولكن لقد فات الأوان «وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟» .. ولقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحدا! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا! وحين تتجلى له هذه الحقيقة: «يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» .. يا ليتني قدمت شيئا لحياتي هنا. فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة. وهي التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادخار لها. يا ليتني.. أمنية فيها الحسرة الظاهرة، وهي أقسى ما يملكه الإنسان في الآخرة! ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» .. إنه الله القهار الجبار. الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد. والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد. وعذاب الله ووثاقه يفصلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة
نام کتاب : في ظلال القران نویسنده : سيد قطب    جلد : 6  صفحه : 3906
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست