في القليل من الخير لأنه يوشك أن يكثر ، وحذر من الذنب اليسير فإنه يوشك أن
يعظم ، فلهذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» [١] والتحقيق أن المقصود النية فإن كان العمل قليلا والنية خالصة حصل المطلوب ،
وإن كان العمل كثيرا والنية فاسدة فالمقصود فائت ، ولهذا قال كعب الأحبار: لا
تحقروا شيئا من المعروف فإن رجلا دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله ، وإن امرأة
أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة. وعن عائشة أنه كان بين يديها عنب
قدمته إلى نسوة بحضرتها فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك ، فضحك بعض من كان عندها
فقالت: إن فيما ترون مثاقيل وتلت هذه الآية. قال جار الله: إن حسنات الكافر محبطة
بالكفر وسيئات المؤمن مكفرة باجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء لمثاقيل الذر من
الخير والشر؟ وأجاب على مذهبه بأن المعنى فمن يعمل من فريق السعداء مثقال ذرة خيرا
يره ، ومن يعمل من فريق الأشقياء مثقال ذرة شرا يره. وذلك أن الحكم جاء بعد قوله (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) والأولى في جوابه ما روي عن ابن عباس: ليس من مؤمن ولا
كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه الله تعالى إياه. فأما المؤمن فيغفر له سيئاته
ويثاب بحسناته وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته. وقيل: إن حسنات الكافر وإن
كانت محبطة بكفره لكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره ،
وكذا القول في الجانب الآخر. وعن محمد بن كعب القرظي: معناه فمن يعمل مثقال ذرة من
خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه أو أهله أو ماله حتى يلقى
الآخرة وليس له فيها خير ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن فإنه يرى عقوبة ذلك
في الدنيا في نفسه أو أهله أو ماله حتى يلقى الآخرة وليس له فيها شر ، وهذا مروي
عن ابن عباس أيضا ويؤيده ما روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال لأبي بكر: يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره
فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة. فإن قيل: إن
كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ قلت: هذا هو الكرم لأن المعصية وإن قلت ففيها
استخفاف والكريم لا يحتمله ، والطاعة تعظيم وإن قلت فالكريم لا يضيعه. قال أهل
العرفان: كأنه تعالى يقول: ابن آدم أنك مع ضعفك وعجزك لم تضيع ذرة من مخلوقاتي بل
نظرت فيها واعتبرت بها واستدللت بوجودها على وجود الصانع ، فأنا مع كمال قدرتي
وكرمي كيف أضيع ذرتك والله الكريم.
[١] رواه البخاري في كتاب
الأدب باب ٣٤. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٦٦ ، ٦٧. الترمذي في كتاب القيامة باب ١.
النسائي في كتاب الزكاة باب ٦٣ ، ٦٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. الدارمي في
كتاب الزكاة باب ٢٤. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٨ ، ٤٤٦) (٤ / ٢٥٦).