فإن افتخرت فيما أنعمت عليّ وقد أمرت (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] وإن استغفرت فمما أسرفت على نفسي وقد قلت (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠].
فيا من لا يوجد
في جوده شوب غرض ولا علّة ، شرفني في الآخرة بالعزّة ، واحرسني في دنياي من الذلّة
، ولا تؤاخذني بالنقصان الإمكاني ولا تعاقبني بالنسيان الإنساني حتى يكون لك الفضل
في الآخرة والأولى ، والثناء في المبدأ والمحمدة في العقبى. أدعوك دعاء البائس
الفقير المستعين ، وأتضرّع إليك تضرّع الذليل المهين المستكين الماثل بين يدي
مولاه الآيس بالكلية عمن سواه ؛ فاسمع فإنك سميع الدعاء ؛ وأجب فإنك قادر على ما
تشاء. والصلاة والسلام على عبيدك ، المخصوصين بتأييدك ، المنزهين عن الأدناس
الجسميّة ، المطهرين عن الأرجاس النفسية ، الفائزين بأشرف مراتب الأنس ، الواصلين
إلى أعلى مدارج الأنس ، الضاربين في أرقى معارج القدس ، ولا سيما المصطفى محمد
الذي أشرق في سماء النبوة بدرا ، وأشرف على بساط الرسالة صدرا ، سيد الثقلين وسند
الخافقين ، إمام المتقين ورسول رب العالمين الكائن نبيا وآدم بين الماء والطين ،
المعفّر له جباه الأملاك ، المشرف بلولاك لما خلقت الأفلاك ، صلى الله عليه وعلى
آله مفاتيح الجنة وأصحابه مصابيح الدحنة وسلم تسليما كثيرا.
وبعد ، فإن
المفتقر إلى عفو ربه الكريم الحسن بن محمد القمي المشتهر بنظام النيسابوري نظم
الله أحواله في أولاه وأخراه يقول : من المعلوم عند ذوي الأفهام أن كلام الملوك
ملوك الكلام ، وبقدر البون بين الواجب الذات والممكن الذات يوجد التفاوت بين كلام
الله تعالى وكلام المخلوقات. ولا سيما إذا وقع في معرض التحدي الذي يظهر النبي هنا
لك من المتنبي ، وهذا شأن القرآن العظيم والفرقان الكريم الذي أخرس شقاشق المناطق
، قضّهم بقضيضهم ، وأوقر مسامع المصاقع فيما بين أوجهم وحضيضهم حتى اختاروا
المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف ، والمقاتلة بالأسنّة على المقاولة
بالألسنة ، والملاكمة باللهاذم على المكالمة باللهازم ، ومبارزة الأقران على
الإتيان بأقصر سورة من القرآن. قال الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]. درج لهم الأمر فأوقع التحدي على القرآن جملة ثم على عشر سور
ثم على سورة ، فاضطرهم التعجيز إلى إيثار الأصعب على الأسهل ؛ فتبين أن الأسهل