responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 7  صفحه : 24
كَمَا عَبَّرَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (4: 29) وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَلِبَاسٍ وَمَتَاعٍ وَمَأْوَى وَكَثِيرًا مَا تُطْلِقُ الْعَرَبُ الْخَاصَّ فَتُرِيدُ بِهِ الْعَامَّ وَمَا تُطْلِقُ الْعَامَّ فَتُرِيدُ بِهِ الْخَاصَّ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ.
الْأَمْرُ هَهُنَا لِلْوُجُوبِ لَا لِلْإِبَاحَةِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ الْمُفِيدِ لِلْإِبَاحَةِ فَقَطْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (5: 2) وَإِنَّمَا هُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ امْتِثَالَ النَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِعْلًا، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَحْرِيمَهَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا عَمْدًا تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا، أَوْ إِضْعَافِهَا لِلْجَسَدِ تَوَهُّمًا أَنَّ إِضْعَافَهُ يُقَوِّي الرُّوحَ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ; كَمَنْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا بِنَذْرِ لَجَاجٍ أَوْ يَمِينٍ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا لَا يَزَالُ يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، دَعْ مَا كَانَتْ تُحَرِّمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى أَنْفُسِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ أَوْ نَسْلِهَا تَكْرِيمًا لَهَا لِكَثْرَةِ نِتَاجِهَا، أَوْ تَعْظِيمًا لِصَنَمٍ تُسَيِّبُهَا لَهُ، كَمَا تَرَاهُ مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَقْبَلُوا نِعَمَهُ وَيَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا أَنْعَمَ بِهَا لِأَجْلِهِ وَيَشْكُرُوا لَهُ ذَلِكَ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ أَنْ يَجْنُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، فَيَمْنَعُوهَا حُقُوقَهَا، وَأَنْ يَجْنُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ فَغَلَوْا فِيهَا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، كَمَا يَكْرَهُ لَهُمْ أَنْ يُفَرِّطُوا فِيهَا بِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ أَوْ تَرْكِ مَا فَرَضَهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ حَتَّى صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِهَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى غَايَةَ ذَلِكَ وَحِكْمَتَهُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (2: 172) وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلِذَلِكَ قَارَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ خِطَابِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (23: 51) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (2: 172) " ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ مِنَ الْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟ " رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْرِيضٌ بِالْعُبَّادِ وَأَهْلِ السِّيَاحَةِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ رُوحَ الْعِبَادَةِ التَّقَشُّفُ وَالشُّعُوثَةُ، حَتَّى إِنَّهُمْ عَلَى تَقَشُّفِهِمْ مَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الْحَلَالَ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ التَّقَشُّفَ وَتَعْذِيبَ النَّفْسِ يُبِيحَانِ لَهُمْ مَا عَدَاهُمَا فَيَكُونُونَ أَهْلًا لِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَلَالُ مَيْلًا إِلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الْبَرْهَمِيِّ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَرَنَتِ الْحَلَالَ بِالطَّيِّبِ فَجَعَلُوا الطَّيِّبَ تَأْكِيدًا لِلْحَلَالِ.

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 7  صفحه : 24
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست