responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 32
فِي الدُّنْيَا، وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْأَثِيرِيِّ تَجُولُ الرُّوحُ فِي هَذَا الْجِسْمِ
الْمَادِّيِّ، فَإِذَا مَاتَ الْمَرْءُ وَخَرَجَتْ رُوحُهُ فَإِنَّمَا تَخْرُجُ بِالْجِسْمِ الْأَثِيرِيِّ وَتَبْقَى مَعَهُ وَهُوَ جِسْمٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَحَلَّلُ، وَأَمَّا هَذَا الْجِسْمُ الْمَحْسُوسُ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ وَيَتَبَدَّلُ فِي كُلِّ بِضْعِ سِنِينَ. قَالَ: وَيَقْرُبُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ ; أَيْ: لَهَا صُورَةٌ، وَمَا الصُّورَةُ إِلَّا عَرَضٌ، وَجَوْهَرُ هَذَا الْعَرَضِ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْعُلَمَاءُ بِالْأَثِيرِ.
وَإِذَا كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَثِيرِ النُّفُوذُ فِي الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ كَمَا يَقُولُونَ حَتَّى إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْقِلُ النُّورَ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى طَبَقَةِ الْهَوَاءِ فَلَا مَانِعَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الرُّوحُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُوَ يَحُلُّ بِهَا جِسْمًا آخَرَ تَنْعَمُ بِهِ وَتُرْزَقُ سَوَاءٌ كَانَ جِسْمَ طَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (3: 169) وَهَذَا الْقَوْلُ يُقَرِّبُ مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ الْعِلْمِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ هُوَ أَنَّهَا حَيَاةٌ غَيْبِيَّةٌ تَمْتَازُ بِهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عَلَى سَائِرِ أَرْوَاحِ النَّاسِ، بِهَا يُرْزَقُونَ وَيَنْعَمُونَ، وَلَكِنَّنَا لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا وَلَا حَقِيقَةَ الرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ بِهَا، وَلَا نَبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ وَنُفَوِّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فَضْلَ الشَّهَادَةِ الَّتِي اسْتُهْدِفَ لَهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَجْمُوعَ الْمَصَائِبِ الَّتِي يَبْلُوهُمْ وَيَمْتَحِنُهُمْ بِهَا وَهِيَ لَا تُنَافِي مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا فَقَالَ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) أَيْ: وَلَنَمْتَحِنَنَّكُمْ بِبَعْضِ ضُرُوبِ الْخَوْفِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَصَائِبِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْمَعَايِشِ، وَأَكَّدَ هَذَا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِتَوْطِينِ الْأَنْفُسِ عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُمْ بِهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إِلَى الْإِيمَانِ لَا يَقْتَضِي سَعَةَ الرِّزْقِ وَقُوَّةَ السُّلْطَانِ، وَانْتِفَاءِ الْمَخَاوِفِ وَالْأَحْزَانِ ; بَلْ يَجْرِي ذَلِكَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، كَمَا أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْخَلْقِ وُقُوعَ الْمَصَائِبِ بِأَسْبَابِهَا. وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الْمُوَفَّقُ مَنْ يَسْتَفِيدُ مِنْ مَجَارِي الْأَقْدَارِ، إِذْ يَتَرَبَّى وَيَتَأَدَّبُ بِمُقَاوَمَةِ الشَّدَائِدِ وَالْأَخْطَارِ، وَمَنْ لَمْ تُعَلِّمْهُ الْحَوَادِثُ، وَتُهَذِّبْهُ الْكَوَارِثُ فَهُوَ جَاهِلٌ بِهَدْيِ الدِّينِ، مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، غَيْرُ مُعْتَبِرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْبَلَاءِ الْمُبِينِ:
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَنَا بِهَذَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ هِيَ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِهَا مَلَكَةُ الصَّبْرِ الَّتِي يُقْرَنُ بِهَا الظَّفَرُ، وَيَكُونُ صَاحِبُهَا أَهْلًا لِأَنْ يُبَشَّرَ بِاحْتِمَالِ الْبَلَاءِ وَالِاسْتِفَادَةِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا.
فَالْبِشَارَةُ فِي الْآيَةِ عَامَّةٌ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُبَشَّرَ بِهِ إِيذَانًا بِذَلِكَ وَهُوَ إِيجَازٌ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذِكْرُ مَا يُبَشَّرُونَ بِهِ لَخَرَجَ الْكَلَامُ إِلَى تَطْوِيلٍ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ كَبَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ يَقَعُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ فَيُصَابِرُهَا وَيَنْجَحُ فِي أَعْقَابِهَا وَهِيَ كَثِيرَةٌ،

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 32
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست