responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 25
بِالْأُسْوَةِ وَالْعَمَلِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ
السُّنَّةُ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بُيُوتِهِ وَمَعَ أَصْحَابِهِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ; فَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِلْقُرْآنِ بِتَفْصِيلِ مُجْمَلِهِ وَبَيَانِ مُبْهَمِهِ، وَإِظْهَارِ مَا فِي أَحْكَامِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْمَنَافِعِ ; وَلِهَذَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْحِكْمَةِ فَإِنَّهَا كَانَتْ كَالْحَكَمَةِ - بِالتَّحْرِيكِ - لِتَأْدِيبِ الْفَرَسِ، وَلَوْلَا هَذِهِ التَّرْبِيَةُ بِالْعَمَلِ لَمَا كَانَ الْإِرْشَادُ الْقَوْلِيُّ كَافِيًا فِي انْتِقَالِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ طَوْرِ الشَّتَاتِ وَالْفُرْقَةِ وَالْعَدَاءِ وَالْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ إِلَى الِائْتِلَافِ وَالِاتِّحَادِ وَالتَّآخِي وَالْعِلْمِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي عَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ، وَمَرَّنَتْهُمْ عَلَى الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
كُلُّنَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْفَضِيلَةَ وَالرَّذِيلَةَ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا عَامِلًا بِعِلْمِهِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ يَعْرِفُونَ الْحُكْمَ يَرَوْنَ حِكْمَتَهُ، وَدُونَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ، فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لِمَ كَانَ هَذَا حَرَامًا؟ وَلَا تَنْفُذُ أَفْهَامُهُمْ فِي أَعْمَاقِ الْحُكْمِ فَتَصِلُ إِلَى فِقْهِهِ وَسِرِّهِ، فَتَعْلَمُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا مَا وَرَاءَ الْمُحَرَّمِ مِنَ الضَّرَرِ لِمُرْتَكِبِهِ وَلِلنَّاسِ، وَمَا وَرَاءَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. وَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَفَقِهُوهُ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَيْهِ وَمُلَاحَظَةِ آثَارِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرَبِّينَ فِي الْعَمَلِ بِهِ - كَمَا أَخَذَ الصَّحَابَةُ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَخَرَجُوا مِنْ ظُلْمَةِ الْإِجْمَالِ وَالْإِبْهَامِ فِي الْمَعْرِفَةِ إِلَى نُورِ التَّجَلِّي وَالتَّفْصِيلِ، حَتَّى تَكُونَ الْجُزْئِيَّاتُ مُشْرِقَةً وَاضِحَةً، وَلَكَانَ هَذَا الْعِلْمُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى إِحْلَالِ الْحَلَالِ بِالْعَمَلِ، وَتَحْرِيمِ الْحَرَامِ بِالتَّرْكِ، فَقَدْ وَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) عَلَى فِقْهِ الدِّينِ وَنَفَذَ بِهِمْ إِلَى سِرِّهِ، فَكَانُوا حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ، عُدُولًا نُجَبَاءَ، حَتَّى أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَحْكُمُ الْمَمْلَكَةَ الْعَظِيمَةَ فَيُقِيمُ فِيهَا الْعَدْلَ وَيُحْسِنُ السِّيَاسَةَ وَهُوَ لَمْ يَحْفَظْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْضَهُ، وَلَكِنَّهُ فَقِهَهُ حَقَّ فِقْهِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى - فِقْهُ الدِّينِ وَمَعْرِفَةُ أَسْرَارِ الْأَحْكَامِ - غَيْرُ التَّزْكِيَةِ، بَيْدَ أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهَا وَيُعِينُ عَلَيْهَا، حَتَّى يُطَابِقَ الْعِلْمُ الْعَمَلَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَبَأٌ عَنِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) (2: 129) الْآيَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ ذِكْرُ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى التَّزْكِيَةِ، وَقَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ التَّزْكِيَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَاحَظَ فِي دَعْوَتِهِ الطَّرِيقَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيمَ يَكُونُ أَوَّلًا ثُمَّ تَكُونُ التَّزْكِيَةُ ثَمَرَةً لَهُ
وَنَتِيجَةً، وَهَاهُنَا ذَكَرَ التَّرْتِيبَ بِحَسَبِ الْوُجُودِ وَالْوُقُوعِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا تَلَا عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ، وَإِلَى الِاعْتِقَادِ بِإِعَادَةِ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ كُلَّ نَفْسٍ وَيَجْزِيهَا بِعَمَلِهَا وَصِفَاتِهَا، فَأَجَابَ النَّاسُ دَعَوْتَهُ بِالتَّدْرِيجِ، وَكُلُّ مَنْ آمَنَ لَهُ كَانَ يَقْتَدِي بِهِ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلَمْ تَكُنْ هُنَالِكَ أَحْكَامٌ وَلَا شَرَائِعُ، ثُمَّ شُرِعَتِ الْأَحْكَامُ بِالتَّدْرِيجِ، فَالتَّزْكِيَةُ بِالتَّأَسِّي بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ إِقَامَةِ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَمُقَدَّمَةً عَلَى تَلَقِّي الشَّرَائِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْأَحْكَامِ.

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 25
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست