responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 208
وَالْخِلَافِ، فَقَدْ كَانَتْ يَهُودُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُجْتَمِعَةً عَلَى كِتَابٍ وَاحِدٍ هُوَ صِرَاطُ اللهِ، فَسَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَتَفَرَّقُوا وَجَعَلُوا لَهُمْ مَذَاهِبَ وَطُرُقًا، وَأَضَافُوا إِلَى الْكِتَابِ مَا أَضَافُوا، وَحَرَّفُوا مِنْ كَلِمِهِ مَا حَرَّفُوا، وَاتَّبَعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَتْ بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَتَّى حَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُمْ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا دِينَهُمْ نَاقِصًا فَكَمَّلُوهُ، وَقَلِيلًا فَكَثَّرُوهُ، وَوَاحِدًا فَعَدَّدُوهُ، وَسَهْلًا فَصَعَّبُوهُ، فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَوَضَعُوهُ، فَذَهَبَ اللهُ بِوَحْدَتِهِمْ حَتَّى لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ، وَأَنْزَلَ بِهِمُ الْبَلَاءَ، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (40: 85) .
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَمِنْ خُطُوَاتِهِ طُرُقُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (24: 21) وَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا مُبِينًا فَذَاكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَدْعُوا إِلَيْهِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، بَيِّنُ الضَّرَرِ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَعَقَلَ، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْخُطُوَاتِ أَدْرَكَهُ فِي غَايَتِهَا عِنْدَمَا يَذُوقُ مَرَارَةَ مَغَبَّتِهَا، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ تَذْكِيرِ اللهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ عِبَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَا عُذْرَ لِمَنْ بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْهِدَايَةُ إِذَا بَقِيَ عَلَى ضَلَالَتِهِ وَاسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى; وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ شَأْنُهُ:
(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أَيْ: فَإِنْ
زَلَلْتُمْ وَحِدْتُمْ عَنْ صِرَاطِ اللهِ - وَهُوَ السُّلَّمُ - إِلَى خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ - وَهِيَ طُرُقُ الْخِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - مِنْ بَعْدِ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ أَنَّ سَبِيلَهُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ السِّلْمُ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا وَتَجْتَنِبُوا طُرُقَهُ وَخُطُوَاتِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ شَرِّ تِلْكَ الطُّرُقِ وَأَشْأَمِهَا وَهِيَ طُرُقُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ أَمَامَكُمْ أَمْرًا جَلِيلًا، وَأَخْذًا وَبِيلًا; ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لِعِزَّتِهِ لَا يَنْسَى مَنْ يَنْسَى سُنَنَهُ وَيَزِلَّ عَنْ شَرِيعَتِهِ; بَلْ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَلِحِكْمَتِهِ قَدْ وَضَعَ تِلْكَ السُّنَنَ فِي الْخَلِيقَةِ، وَهَدَى إِلَيْهَا النَّاسَ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقُوبَةً، وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى ذُنُوبِ الْأُمَمِ أَثَرًا مِنْ آثَارِهَا لَازِمًا لَهَا حَتْمًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاعْلَمُوا أَنَّهُ يُحِلُّ بِكُمُ الْعِقَابَ; لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، وَحَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْحُجَّةِ، وَتَقْرِيرٌ لِلْبُرْهَانِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مُقَدِّمَاتِهِ اكْتِفَاءً بِهِ عَنْ ذِكْرِ النَّتِيجَةِ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي كَلَامِ إِنْسَانٍ.

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 208
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست