بعد أن ذكر
سبحانه أحكام المشركين فى إظهار البراءة من عهودهم ، وفى إظهار البراءة منهم فى
أنفسهم ، وفى وجوب مقاتلتهم وإبعادهم عن المسجد الحرام ـ قفّى على ذلك بحكم قتال
أهل الكتاب وبيان الغاية منه ، وفى ذلك توطئة للكلام فى غزوة تبوك مع الروم من أهل
الكتاب والخروج إليها فى زمن العسرة والقيظ ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين
وهتك حجب كفرهم وتمحيص المؤمنين ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل فيها
الروم لما سيأتى بعد.
روى ابن المنذر
عن ابن شهاب قال : أنزلت فى كفار قريش والعرب (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ونزلت فى أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله ـ (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ) فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه
الصلاة والسلام.
روى ابن أبى
شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال : «قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه
الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره ، وكان أفضل الجهاد ، وكان بعده
جهاد على هذه الآية فى شأن أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية ، وعلى الجملة فالقتال الواجب فى الإسلام إنما
شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ، ومن ثم اشترط أن تقدم عليه
الدعوة إلى الإسلام.
والناظر إلى
غزواته صلى الله عليه وسلم يرى أنها كلها كانت دفاعا عن الدعوة ، وكذلك كانت حروب
الصحابة فى الصدر الأول ، ثم كان القتال بعد ذلك ضرورة من ضرورات الملك والدولة ،
ومع ذلك فقد كان الإسلام فيها مثال الرأفة والرحمة والعدل.