اليونانية والفارسية والهندية ، ومرت بأهلها أعاصير من جدل أهل الكتاب
يهودهم ونصاراهم ، فكان كل أولئك حافزا للعلماء على أن يؤلفوا موسوعات فى التفسير
تجمع بين دفتيها فنونا من المعرفة لم يكن لهم بها سابقة عهد ، وسار الفكر الإسلامى
حرّا طليقا فى معرفتها حينا ، ومقيدا حينا آخر ، يحكّم العقل مرة ، ويسلس قياده
للنص أخرى ، ويميل إلى التقليد حين الضعف والانحلال والركود الفكرى.
ولما كان
القرآن كتابا سماويا تنزل على قلب أكمل الأنبياء ، مشتملا على معارف عالية ومطالب
سامية ، يجد المنقّب عنها من الهيبة والجلال ما يكاد يحول بينه وبين الوصول إليها
ـ سهل سبحانه الأمر علينا ، فلم يطلب منا إلا الفهم والتدبر فى كلامه ، لأنه نزّله
نورا وهدى للناس ، وجعله حاويا للشرائع والأحكام التي لا يمكن العمل بها إلا إذا
فهمت حق الفهم ، واستوضحت مغازيها ، وكشفت أسرارها ومراميها ، من حيث هى دين إلهى
، وهدى سماوى ، ترشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتيهم الدنيوية والأخروية ،
وما سوى ذلك من وجوه النظر والبحث ، فتابع لذلك ، ووسيلة إليه فى التحصيل ، ولا
يعنينا العناية التي نهتم لها اهتمامنا بالمطلب الأول ، لكنّ كثيرا من المفسرين ،
جعلوا عنايتهم تكاد تكون وقفا على الوسائل دون المقاصد :
(١) فمنهم من
وجه النظر إلى البحث فى أساليب الكتاب ومعانيه ، وبيان ما احتوى عليه من بلاغة
وفصاحة ، وأطنب فى ذلك وجعل مقصده بيان ميزته عن غيره من الكلام وإظهار إعجازه
للناس ، ليتبين لهم كيف أعجز مقاويل العرب وفصحاءهم ، وكيف استخذوا أمامه ووقفوا
وأجمعين؟ وكيف لجئوا إلى السيف والسنان ، دون مقابلة البرهان بالبرهان؟ وكيف عمّى
عليهم الأمر؟ فلم يجدوا لرد التحدي سبيلا.
وقد سلك هذا
المسلك الزمخشري فى كشافه ، فألمّ بالكثير من مقاصد البلاغة ، وأبدع فيها أيّما
إبداع ، ونحا نحوه خلق كثير.
(٢) ومنهم من
وجه النظر إلى إعرابه وتوسع فى بيان وجوهه ، حتى كأن القرآن