responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) نویسنده : الرازي، فخر الدين    جلد : 21  صفحه : 490
أَنْ يُشْرِفَ عَلَى بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَيَطَّلِعَ بِهَا عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ مَرْتَبَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ بِنَاءَ الْأَمْرِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَهَذَا الْعَالِمُ كَانَتْ مَرْتَبَتُهُ الْوُقُوفَ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهَا الْكَامِنَةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعِلْمِ كَانَتْ فَوْقَ مَرْتَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَسَائِلُ الثَّلَاثَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الضَّرَرَيْنِ يَجِبُ تَحَمُّلُ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ.
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعِبْ تِلْكَ السَّفِينَةَ بِالتَّخْرِيقِ لَغَصَبَهَا ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَفَاتَتْ مَنَافِعُهَا عَنْ مُلَّاكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَنْ يَخْرِقَهَا وَيَعِيبَهَا فَتَبْقَى مَعَ ذَلِكَ عَلَى مُلَّاكِهَا، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَخْرِقَهَا فَيَغْصِبَهَا الْمَلِكُ فَتَفُوتَ مَنَافِعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مُلَّاكِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّرَرَ الْأَوَّلَ أَقَلُّ فَوَجَبَ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَعْظَمُهُمَا.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَكَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ الْغُلَامِ حَيًّا كَانَ مَفْسَدَةً لِلْوَالِدَيْنِ فِي دِينِهِمْ وَفِي دُنْيَاهُمْ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَنَّ الْمَضَارَّ النَّاشِئَةَ مِنْ قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ أَقَلُّ مِنَ الْمَضَارِّ النَّاشِئَةِ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ لِلْأَبَوَيْنِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِهِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى إِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ ضَرَرُهَا أَقَلُّ مِنْ سُقُوطِهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَضَاعَ مَالُ تِلْكَ الْأَيْتَامِ. وَفِيهِ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْوُقُوفِ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَبِالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا كَانَ كَذَلِكَ بَلْ كَانَتْ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ فَلَا جَرَمَ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْعِلْمَ فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ/ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ عِلْمًا يُمْكِنُ لَهُ تَعَلُّمُهُ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثَةُ عُلُومٌ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا وَإِظْهَارِهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِنَاءً عَلَى تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَتَجْرِيدِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِلْمِ ذَلِكَ الْعَالِمِ: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: 65] ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَمُلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْعَالِمِ لِيَعْلَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ كَمَالَ الدَّرَجَةِ فِي أَنْ يَنْتَقِلَ الْإِنْسَانُ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ إِلَى عُلُومِ الْبَاطِنِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْبَوَاطِنِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ أَجَابَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ تِلْكَ السَّفِينَةَ كَانَتْ لِأَقْوَامٍ مُحْتَاجِينَ مُتَعَيِّشِينَ بِهَا فِي الْبَحْرِ وَاللَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْفَقِيرِ فِي الضُّرِّ وَالْحَاجَةِ أَشَدُّ مِنْ حَالِ الْمِسْكِينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ تِلْكَ السَّفِينَةَ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُرَادَ ذَلِكَ الْعَالِمِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودِي مِنْ تَخْرِيقِ تِلْكَ السَّفِينَةِ تَغْرِيقَ أَهْلِهَا بَلْ مَقْصُودِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ الظَّالِمَ كَانَ يَغْصِبُ السُّفُنَ الْخَالِيَةَ عن العيوب
نام کتاب : التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) نویسنده : الرازي، فخر الدين    جلد : 21  صفحه : 490
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست