ترى الطير في جوّ السماء معلّقا* * * من البرد ممنوعا من الطيران
و تجمد بين الحائطين كلابهم* * * و كانت تباري الخيل يوم رهان
و ليس يقي من بردها جلد ثعلب* * * بخوارزم مدبوغ بغير تواني
و لا جلد سمّور و لا الفنك الذي* * * يوقّى به المقرور حرّ عمان
و ليس يقيهم منه لفح جهنّم* * * و ما لهم بالزمهرير يدان
أما مهربا من ذا العذار فقد وهت* * * عظامي و لا تشعر به القدمان
إلى الكرج الحسناء دار أميرنا* * * فنوسعها حمدا بكلّ لسان
مباركة حفّت بخصب و نعمة* * * بماء عيون عذبة و جنان
فأهل التقى و البرّ و الفضل أهلها* * * و ليس لهم في المشرقين مدان
ذكر حب الأوطان
و لولا اختلاف شهوات الناس لما اختاروا من الأسماء إلّا أحسنها و من البلدان إلّا أغذاها و من الأمصار إلّا أوسطها.
و لو كانوا كذلك لتناحروا على البلدان الغذية و لتقاتلوا على الأمصار المتوسطة، و لما و سعتهم بلاد و لا تمّ بينهم صلح.
إلّا أن رضاهم بأوطانهم، و اغتباطهم بمساقط رؤوسهم مانع لهم. و القناعة ببلدانهم و إن كانت الطبيعة مجبولة عليه. و كيف لا يكونون كذلك و أنت لو حوّلت ساكني الآجام إلى الفيافي، و ساكني السهل إلى الجبال، و ساكني الجبال إلى السهل و البحار، و ساكني أهل العمد إلى المدر، لأذاب قلوبهم و أخنى عليهم فرط النزاع. بل لو نقلت أهل القفار إلى العمران و حوّلت من في جزائر البحار إلى المدن، لم تجدهم راضين بذلك و لا قانعين. بل كنت تجدهم يحنون إلى أوطانهم و يتذكرون بلدانهم.
و قد قيل في الأمثال: عمّر اللّه البلدان بحب الأوطان الرجال.
و قال عبد اللّه بن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم.