انتفعوا بدجلة انتفاعا كثيرا مثل شقّ القناة منها ، ونصب النواعير على
الماء يديرها الماء بنفسه ، ونصب العربات وهي الطواحين التي يديرها الماء في وسط
دجلة في سفينة ، وتنقل من موضع إلى موضع ، وفي الجانب الشرقي عند انتقاص الماء
يبقى على طرف دجلة ضحضاح على أرض ذات حصباء. يتّخذ الناس عليها سررا وقبابا من
القصب في وسط الماء ، يسمّونها السواريق ويبيتون فيها ليالي الصيف. يكون هواؤها في
غاية الطيب ، وإذا نقص الماء وظهرت الأرض زرعوا بها القثاء والخيار ، فتكون حول
القباب مقثاة ويبقى ذلك إلى أوّل الشتاء.
وأهلها أهل
الخير والمروءة والطباع اللطيفة في المعاشرة والظرافة ، والتدقيق في الصناعات ،
وما فيهم إلّا من يحبّ المختطين ؛ قال الشاعر :
كتب العذار
على صحيفة خدّه
سطرا يلوح
لناظر المتأمّل
بالغت في
استخراجه فوجدته
لا رأي إلّا
رأي أهل الموصل
ينسب إليها
جمال الدين الموصلي. كان من كرام الدنيا ، أصله من أصفهان.
توزّر من صاحب
الموصل ، وكان يعطي أكثر من عبر الموصل ، فعرف الناس أن عنده علم الكيمياء ، وكلّ
من سأله أعطاه. وحكي أنّ رجلا صوفيّا قال له :أنت الجمال الموصلي؟ قال : نعم. قال
: اعطني شيئا! قال له : سل ما شئت.
فنزع طرطوره
وقال : املأ هذا دراهم! فقال : اتركه عندي وارجع غدا خذه! فتركه عنده ، فلمّا عاد
أعطاه إيّاه مملوءا من الدراهم ، فأخذه وخرج ثمّ عاد وقال :ما لي إلى هذا حاجة ،
وإنّما أردت أن أجرّبك هل أنت أهل لهذه الصنعة أم لا ، فعرفت أنّك أهل ، وأنت ما
تعرف إلّا عمل الفضّة ، أريد أن أعلّمك عمل الذهب أيضا. فعلّمه وذهب.
وحكي انّه
استأذن من الخليفة أن يلبس الكعبة في بعض السنين ، فأذن له فأخذ للكعبة لباسا أخضر
، ونثر على الكعبة مالا كثيرا ، وأعطى أهل مكّة وضعفاء الحاجّ أموالا وسار ذكره في
الآفاق.