responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تاريخ بغداد ت بشار نویسنده : الخطيب البغدادي    جلد : 8  صفحه : 705
قوائمه فِي السماء، فإذا أردت أن تخفيه أخفيته فِي إحدى عينيك؟ قَالَ: فبهت وسكت.
أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيم بن مخلد، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بن عَلِيّ الخطبي فِي تاريخه، قَالَ: وظهر أمر رجل يعرف بالحلاج، يقال لَهُ: الْحُسَيْن بن مَنْصُور وكان فِي حبس السلطان بسعاية وقعت به فِي وزارة عَلِيّ بن عِيسَى الأولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة، ووضع الحيل عَلَى تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، فكشفه عَلِيّ بن عِيسَى عند قبضه عليه، وأنهى خبره إِلَى السلطان، يعني المقتدر بالله، فلم يقر بما رمي به من ذلك، وعاقبه، وصلبه حيا أياما متوالية فِي رحبة الجسر فِي كل يوم غدوة، وينادى عليه بما ذكر عنه، ثم ينزل به.
ثم حبس فأقام فِي الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إِلَى حبس حتى حبس بأخرة فِي دار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان، وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيله حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه، ويرفهونه، ثم راسل جماعة من الكتاب، وغيرهم بِبَغْدَادَ وغيرها، فاستجابوا لَهُ، وتراقى به الأمر حتى ذكر أنه ادعى الربوبية، وَسُعِيَ بجماعة من أصحابه إِلَى السلطان فقبض عليهم، ووجد عند بعضهم كتب لَهُ تدل عَلَى تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بلسانه بذلك، وانتشر خبره، وتكلم الناس فِي قتله فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إِلَى حامد بن الْعَبَّاس، وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة، ويجمع بينه، وبين أصحابه فجرى فِي ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره، ووقف عَلَى ما ذكر لَهُ عنه فأمر بقتله، وإحراقه بالنار فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاث مائة فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط، وقطعت يداه، ورجلاه، وضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ونصب -[706]- رأسه للناس عَلَى سور السجن الجديد، وعلقت يداه، ورجلاه إِلَى جانب رأسه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أَبِي الْحَسَن الساحلي، عَنْ أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بن مُحَمَّد النسوي، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْحَافِظ يَقُولُ: سمعت إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْوَاعِظ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّازِيّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حمشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل، ومعه مخلاة فما كَانَ يفارقها بالليل، ولا بالنهار ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إِلَى فلان بن فلان فوجه إِلَى بَغْدَاد، قَالَ: فأحضر، وعرض عليه، فَقَالَ: هذا خطي وأنا كتبته.
فقالوا: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية؟ فَقَالَ: ما أدعي الربوبية، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إِلا اللَّه، وأنا واليد فيه آلة، فقيل: هل معك أحد؟ فَقَالَ: نعم ابن عطاء، وأبو مُحَمَّد الجريري، وأَبُو بَكْر الشبلي، وأبو مُحَمَّد الجريري يستتر، والشبلي يستتر فإن كَانَ فابن عطاء فأحضر الجريري فسئل، فَقَالَ: هذا كافر يقتل، ومن يَقُولُ هذا؟ وسئل الشبلي، فَقَالَ: من يَقُولُ هذا يمنع.
ثم سئل ابن عطاء عَنْ مقالة الحلاج، فَقَالَ بمقالته فكان سبب قتله.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمَد الحيري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ الرَّازِيّ يَقُولُ: كَانَ الوزير حيث أحضر الْحُسَيْن بن مَنْصُور للقتل، حامد بن الْعَبَّاس فأمره أن يكتب اعتقاده فكتب اعتقاده، فعرضه الوزير عَلَى الفقهاء بِبَغْدَادَ فأنكروا ذلك، فقيل للوزير: إن أبا الْعَبَّاس بن عطاء يصوب قوله، فأمر أن يعرض ذلك عَلَى أَبِي الْعَبَّاس بن عطاء، فعرض عليه، فَقَالَ: هذا اعتقاد صحيح، وأنا أعتقد هذا الاعتقاد، ومن لا يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد.
فأمر الوزير بإحضاره فأحضر، وأدخل عليه فجلس فِي صدر المجلس فغاظ الوزير ذلك، ثم أخرج ذلك الخط، فَقَالَ: هذا -[707]- خطك، فَقَالَ: نعم، فَقَالَ: تصوب مثل هذا الاعتقاد، فَقَالَ: مالك ولهذا، عليك بما نصبت لَهُ من أخذ أموال الناس، وظلمهم، وقتلهم مالك ولكلام هؤلاء السادة، فَقَالَ الوزير: فكيه، فضرب فكاه، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ إنك سلطت هذا عَلِيّ عقوبة لدخولي عليه، فَقَالَ: الوزير خفه يا غلام فنزع خفه، فَقَالَ: دماغه فما زال يضرب رأسه حتى سال الدم من منخريه، ثم قَالَ: الحبس، فقيل: أيها الوزير يتشوش العامة لذلك، فحمل إِلَى منزله، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ اقتله أخبث قتلة، واقطع يديه ورجليه، فمات أَبُو الْعَبَّاس بعد ذلك بسبعة أيام، وقتل حامد بن الْعَبَّاس أفظع قتل وأوحشها بعد أن قطعت يداه ورجلاه وأحرق داره، وكانوا يقولون: أدركته دعوة أَبِي الْعَبَّاس بن عطاء.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عَلِيّ بن أَبِي الفتح، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن النَّيْسَابُورِيّ، قَالَ: سمعت أبا بكر بن غالب يَقُولُ: سمعت بعض أصحابنا، يَقُولُ: لما أرادوا قتل الْحُسَيْن بن مَنْصُور أحضر لذلك الفقهاء، والعلماء، وأخرجوه، وقدموه بحضرة السلطان، فسألوه فقالوا مسألة، فَقَالَ: هاتوا، فقالوا لَهُ: ما البرهان؟ فَقَالَ: البرهان شواهد يلبسها الحق أهل الإخلاص، يجذب النفوس إليها جاذب القبول.
فقالوا بأجمعهم: هذا كلام أهل الزندقة! وأشاروا عَلَى السلطان بقتله.
قُلْتُ: قد أحال هذا الحاكي عَنِ الفقهاء بأن هذا كلام أهل الزندقة، وهو رجل مجهول، وقوله غير مقبول، وإنما أوجب الفقهاء قتله بأمر آخر.
حَدَّثَنِي مسعود بن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ باكو الشيرازي، قَالَ: سمعت عيسى بن بزول القزويني، وقد سأل أبا عَبْد اللَّهِ بْن حفيف، عَنْ معنى هذه الأبيات:
-[708]-
سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا فِي خلقه ظاهرا فِي صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب
فَقَالَ الشيخ: عَلَى قائلها لعنه اللَّه، فَقَالَ عِيسَى بن بزول: هذا للحسين بن مَنْصُور، فَقَالَ: إن كَانَ هذا اعتقاده فهو كافر.
إِلا أَنَّهُ لم يصح أَنَّهُ لَهُ، ربما يكون مقولا عليه.
قَالَ ابن باكوا: سمعت أبا الْقَاسِم يوسف بن يَعْقُوبَ النعماني يَقُولُ: سمعت والدي يَقُولُ: سمعت أبا بكر مُحَمَّد بن داود الفقيه الأصبهاني يَقُولُ: إن كَانَ ما أنزل اللَّه عَلَى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقا، وما جاء به حق فما، يَقُولُ الحلاج باطل.
وكان شديدا عليه.
أَخْبَرَنَا ابن الفتح، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، قَالَ: سمعت أبا بكر الشاشي، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الجديد، يعني المصري: لما كَانَ الليلة التي قتل فِي صبيحتها الْحُسَيْن بن مَنْصُور قام من الليل فصلى ما شاء اللَّه، فلما كَانَ آخر الليل قام قائما فتغطى بكسائه، ومد يديه نحو القبلة فتكلم بكلام جائز الحفظ، وكان مما حفظت أن قَالَ: نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدي ما شئت من شانك ومشيئتك، وأنت الذي فِي السماء إله وفي الأرض إله، تتجلى لما تشاء مثل تجليك فِي مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم، والبيان، والقدرة ثم أوعزت إِلَى شاهدك، الآني فِي ذاتك الهوى، كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند عقيب كراتي، ودعوت إِلَى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي، ومعجزاتي صاعدا فِي معارجي إِلَى عروش أزلياتي، عند القول من برياتي إني احتضرت وقتلت، وصلبت، وأحرقت، واحتملت سافياتي الذاريات، ولججت بي الجاريات، وإن ذرة من ينجوج مكان هاكول -[709]- متحلياتي، لأعظم من الراسيات، ثم أنشأ، يَقُولُ:
أنعي إليك نفوسا طاح شاهدها فيما ورا الحيث أو فِي شاهد القدم
أنعي إليك قلوبا طالما هطلت سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
أنعي إليك لسان الحق مذ زمن أودى وتذكاره فِي الوهم كالعدم
أنعي إليك بيانا يستكين لَهُ أقوال كل فصيح مقول فهم
أنعي إليك إشارات العقول معا لم يبق منهن إِلا دارس الرمم
أنعي وحبك أخلاقا لطائفة كانت مطاياهم من مكمد الكظم
مضى الجميع فَلا عين ولا أثر مضى عاد وفقدان الألى إرم
وخلفوا معشرا يجرون لبستهم أعمى من البهم بل أعمى من النعم
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن عَلِيّ الصوري، قَالَ: سمعت إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر بن أَبِي الكرام الْبَزَّاز بمصر يَقُولُ: سمعت أبا مُحَمَّد الياقوتي، يَقُولُ: رأيت الحلاج عند الجسر، وهو عَلَى بقرة، ووجهه عَلَى عجزها فسمعته يَقُولُ: ما أنا بالحلاج ألقى عَلَى شبهه وغاب، فلما أدنى إِلَى الخشبة ليصلب عليها سمعته يَقُولُ: يا معين الضنا عَلِيّ أعني عَلَى الضنا.
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو العلاء الواسطي، قَالَ: لما أخرج الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج ليقتل أنشد:
طلبت المستقر بكل أرض فلم أر لِي بأرض مستقرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل الحيري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، قَالَ: -[710]- سمعت مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَن الْوَرَّاق يَقُولُ: سمعت أبا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد القلانسي الرَّازِيّ يَقُولُ: لما صلب الْحُسَيْن بن مَنْصُور، وقفت عليه وهو مصلوب، فَقَالَ: إلهي أصبحت فِي دار الرغائب أنظر إِلَى العجائب إلهي إنك تتودد إِلَى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إِلَى من يؤذى فيك.
وَقَالَ السلمي: سمعت عبد الواحد بن عَلي يَقُولُ: سمعت فارسا الْبَغْدَادِيّ يَقُولُ: لما حبس الحلاج قيد من كعبه إِلَى ركبته بثلاثة عشر قيدا، وكان يصلي مع ذلك فِي كل يوم وليله ألف ركعة! قَالَ: وسمعت فارسا يَقُولُ: قطعت أعضاؤه يوم قتل عضوا عضوا وما تغير لونه.
وَقَالَ السلمي: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الرَّازِيّ يَقُولُ: سمعت أبا بكر العطوفي يَقُولُ: كنت أقرب الناس من الحلاج فضرب كذا، وكذا سوطا، وقطعت يداه، ورجلاه فما نطق! أَخْبَرَنَا ابن الفتح، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، قَالَ: سمعت الْحُسَيْن بن أَحْمَد، يعني الرَّازِيّ، يَقُولُ: سمعت أبا الْعَبَّاس بن عبد العزيز يَقُولُ: كنت أقرب الناس من الحلاج حين ضرب، وكان، يَقُولُ مع كل صوت: أحد، أحد.
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بن أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَان الصيرفي، قَالَ: قَالَ لنا أَبُو عُمَرَ بن حيويه: لما أخرج حسين الحلاج ليقتل مضيت فِي جملة الناس، ولم أزل أزاحم حتى رأيته، فَقَالَ لأصحابه: لا يهولنكم هذا، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما، ثم قتل.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَدَ بْنِ عَبْد اللَّهِ الأردستاني، بمكة، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السلمي بنيسابور، قَالَ: سمعت أبا الْعَبَّاس الرزاز يَقُولُ: كَانَ أخي خادما للحسين بن مَنْصُور، فسمعته يَقُولُ: لما كانت الليلة التي وعد من الغد قتله، قُلْتُ لَهُ: يا سيدي أوصني، فَقَالَ لِي: عليك -[711]- نفسك إن لم تشغلها شغلتك، قَالَ: فلما كَانَ من الغد فأخرج للقتل، قَالَ: حسب الواجد أفراد الواحد لَهُ، ثم خرج يتبختر فِي قيده، ويقول:
نديمي غير منسوب إِلَى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشرب فعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح مع التنين فِي الصيف
ثم قَالَ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}، ثم ما نطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل.
أَخْبَرَنَا ابن الفتح، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، قَالَ: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُولُ: سمعت عِيسَى القصار يَقُولُ: آخر كلمة تكلم بها الْحُسَيْن بن مَنْصُور عند قتله وصلبه أن قَالَ: حسب الواجد أفراد الواحد لَهُ فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إِلا رق لَهُ واستحسن هذا الكلام منه.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل الحيري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، قَالَ: سمعت أبا بكر البجلي يَقُولُ: سمعت أبا الفاتك الْبَغْدَادِيّ، وكان صاحب الحلاج، قَالَ: رأيت فِي النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج، كأني واقف بين يدي ربي تعالى فأقول: يا رب ما فعل الْحُسَيْن بن مَنْصُور؟ فَقَالَ: كاشفته بمعنى فدعا الخلق إِلَى نفسه، فأنزلت به ما رأيت.

ذكر أخبار الحلاج بعد حصوله فِي يد حامد بن الْعَبَّاس وشرحها عَلَى التفصيل إِلَى حين مقتله
قد ذكرنا ما انتهى إلينا من أخبار الحلاج المنثورة، وأنا أسوق هاهنا قصته بِبَغْدَادَ مفصلة، وسبب القبض عليه، وشرح ما بعد ذلك إِلَى أن قتل: فبلغنا أَنَّهُ أقام بِبَغْدَادَ فِي أيام المقتدر بالله زمانا يصحب الصوفية وينتسب -[712]- إليهم، والوزير إذ ذاك حامد بن الْعَبَّاس فانتهى إليه أن الحلاج قد موه عَلَى جماعة من الحشم والحجاب فِي دار السلطان، وعلى غلمان نصر القشوري الحاجب وأسبابه بأنه يُحْيي الموتى، وأن الجن يخدمونه، ويحضرون ما يختاره، ويشتهيه، وأظهر أَنَّهُ قد أحيا عدة من الطير، وأظهر أَبُو عَلِيّ الأوارجي لعلي بن عِيسَى أن مُحَمَّد بن عَلي القنائي، وكان أحد الكتاب يعبد الحلاج، ويدعو الناس إِلَى طاعته، فوجه عَلِيّ بن عِيسَى إِلَى مُحَمَّد بن عَلِيّ القنائي من كبس منزله، وقبض عليه، وقرره عَلِيّ بن عِيسَى فأقر أَنَّهُ من أصحاب الحلاج، وحمل من داره إِلَى عَلِيّ بن عِيسَى دفاتر، ورقاعا بخط الحلاج فالتمس حامد بن الْعَبَّاس من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج ومن وجد من دعاته، فدفع عنه نصر الحاجب، وكان يذكر عنه الميل إِلَى الحلاج، فجرد حامد فِي المسأله، فأمر المقتدر بالله أن يدفع إليه فقبضه، واحتفظ به، وكان يخرجه كل يوم إِلَى مجلسه، ويتسقطه ليتعلق عليه بشيء يكون سبيلا لَهُ إِلَى قتله فكان الحلاج لا يزيد عَلَى إظهار الشهادتين، والتوحيد، وشرائع الإسلام، وكان حامد قد سعى إليه بقوم أنهم يعتقدون فِي الحلاج الإلهيه، فقبض حامد عليهم، وناظرهم فاعترفوا أنهم من أصحاب الحلاج ودعاته، وذكروا لحامد أنهم قد صح عندهم أَنَّهُ إله، وأنه يُحْيِي الموتى، وكاشفوا الحلاج بذلك فجحده وكذبهم، وَقَالَ: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد اللَّه، وأكثر الصوم، والصلاة، وفعل الخير، ولا أعرف غير ذلك.
فأَخْبَرَنِي عَلِيّ بن المحسن القاضي، عَنْ أبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّدِ بْنِ زنجي الكاتب، عَنْ أَبِيهِ، وهو المعروف بزنجي مما أسوقه من أخبار الحلاج إِلَى حين مقتله، وكان زنجي يلازم مجلس حامد بن الْعَبَّاس، ويرى الحلاج، ويسمع مناظرات أصحابه، قَالَ زنجي: كَانَ أول ما انكشف -[713]- من أمره فِي أيام وزارة حامد بن الْعَبَّاس أن رجلا شيخا حسن السمت يعرف بالدباس تنصح فيه، وذكر انتشار أصحابه، وتفرق دعاته فِي النواحي، وأنه كَانَ ممن استجاب لَهُ، ثم تبين مخرقته ففارقه، وخرج عَنْ جملته، وتقرب إِلَى اللَّه بكشف أمره، واجتمع معه عَلَى هذه الحال أَبُو عَلِيّ هَارُون بن عبد العزيز الأوارجي الكاتب الأنباري، وكان قد عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلاج، والحيلة فيها، والحلاج حينئذ مقيم عند نصر القشوري فِي بعض حجره موسع عليه مأذون لمن يدخل إليه، وللحلاج اسمان: أحدهما الْحُسَيْن بن مَنْصُور، والآخر مُحَمَّد بن أَحْمَد الفارسي.
وكان قد استغوى نصرا وجاز تمويهه عليه حتى كَانَ يسميه العبد الصالح ويحدث الناس أن علة عرضت للمقتدر بالله فِي جوفه وقف نصر عَلَى خبرها فوصفه لَهُ، واستأذنه فِي إدخاله إليه فأذن لَهُ، ووضع يده عَلَى الموضع الذي كانت العلة فيه، وقرأ عليه فاتفق أن زالت العلة ولحق والدة المقتدر بالله مثل تلك العلة، وفعل بها مثل ذلك فزال ما وجدته فقام للحلاج بذلك سوق فِي الدار، وعند والدة المقتدر، والخدم، والحاشية، وأسباب نصر خاصة، ولما انتشر كلام الدباس وأبي عَلي الأوارجي فِي الحلاج بعث به المقتدر بالله إِلَى أَبِي الْحَسَن عَلَى ابن عِيسَى ليناظره فأحضره مجلسه، وخاطبه خطابا فيه غلظة فحكي فِي ذلك الوقت أَنَّهُ تقدم إليه، وَقَالَ لَهُ فيما بينه وبينه: قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئا وإلا قلبت الأرض عليك أو كلاما فِي هذا المعنى، فتهيب عَلِيّ بن عِيسَى مناظرته، واستعفى منه، ونقل حينئذ إِلَى حامد، وكانت بنت السمري صاحب الحلاج قد أدخلت إليه، وأقامت عنده فِي دار السلطان مدة، وبعث بها إِلَى حامد ليسألها عما وقفت عليه، وشاهدته من أحواله فدخلت إِلَى حامد فِي يوم شات بارد، وهذه المرأة بحضرته، وكانت حسنة العبارة عذبة الألفاظ مقبولة الصورة فسألها عَنْ أمره فذكرت أن أباها السمري حملها إليه، وأنها لما دخلت عليه، وهب لها أشياء كثيرة، عددت أصنافها منها ريطة خضراء، وَقَالَ لها: قد -[714]- زوجتك من ابني سُلَيْمَان، وهو أعز ولدي عَلِيّ، وهو مقيم بنيسابور فِي موضع قد ذكرته، وأنسيته، وليس يخلو أن يقع بين المرأة، وزوجها خلاف أو تنكر منه حالا من الأحوال، وقد أوصيته بك فمتى جرى شيء تنكرينه من جهته فصومي يومك، واصعدي آخر النهار إِلَى السطح، وقومي عَلَى الرماد، واجعلي فطرك عليه، وعلى ملح جريش، واستقبليني بوجهك، واذكري لِي ما أنكرته منه فإني أسمع وأرى، قَالَتْ: وكنت ليلة نائمة فِي السطح، وابنة الحلاج معي فِي دار السلطان، وهو معنا فلما كَانَ فِي الليل أحسست به، وقد غشيني فانتبهت مذعورة منكرة لما كَانَ منه، فَقَالَ: إنما جئتك لأوقظك للصلاة، ولما أصبحنا نزلت إِلَى الدار، ومعي بنته، ونزل هو فلما صار عَلَى الدرجة بحيث يرانا، ونراه، قَالَتْ بنته: اسجدي لَهُ، فقلت لها: أو يسجد أحد لغير اللَّه، وسمع كلامي لها، فَقَالَ: نعم إله فِي السماء، وإله فِي الأرض، قَالَتْ: ودعاني إليه، وأدخل يده فِي كمه، وأخرجها مملوءة مسكا فدفعه إلي، وفعل هذا مرات، ثم قَالَ: اجعلي هذا فِي طيبك، فإن المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إِلَى الطيب، قَالَتْ: ثم دعاني وهو جالس فِي بيت البواري، فَقَالَ: ارفعي جانب البارية، وخذي من تحته ما تريدين، وأومأ إِلَى زاوية البيت فجئت إليها، ورفعت البارية فوجدت الدنانير تحتها مفروشة ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك.
قَالَ زنجي: وأقامت هذه المرأة معتقلة فِي دار حامد إِلَى أن قتل الحلاج.
ولما حصل الحلاج فِي يد حامد جد فِي طلب أصحابه، وأذكى العيون عليهم، وحصل فِي يده منهم حيدرة، والسمري، ومحمد بن عَلِيّ القنائي، والمعروف بأبي المغيث الهاشمي، واستتر المعروف بابن حَمَّاد، وكبس منزله، وأخذت منه دفاتر كثيرة، وكذلك من منزل مُحَمَّد بن عَلِيّ القنائي فِي ورق صيني، وبعضها مكتوب بماء الذهب مبطنة بالديباج، والحرير مجلدة بالأديم الجيد، وكان فيما خاطبه به حامد أول ما حمل إليه: ألست تعلم أني -[715]- قبضت عليك بدور الراسبي، وأحضرتك إِلَى واسط فذكرت لِي دفعة أنك المهدي، وذكرت فِي دفعة أخرى أنك رجل صالح تدعو إِلَى عبادة اللَّه، والأمر بالمعروف فكيف ادعيت بعد الإلهية؟! وكان فِي الكتب الموجودة عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين إِلَى النواحي، وتوصيتهم بما يدعون الناس إليه، وما يأمرهم به من نقلهم من حال إِلَى أخرى، ومرتبة إِلَى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى، وأن يخاطبوا كل قوم عَلَى حسب عقولهم، وأفهامهم، وعلى قدر استجابتهم، وانقيادهم، وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إِلا من كتبها، ومن كتبت إليه، ومدارج فيها ما يجري هذا المجرى، وفي بعضها صورة فيها اسم اللَّه تعالى مكتوب عَلَى تعويج، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب: عَلِيّ عليه السلام كتابة لا يقف عليها إِلا من تأملها.
وحضرت مجلس حامد وقد أحضر السمري صاحب الحلاج، وسأله عَنْ أشياء من أمر الحلاج، وَقَالَ لَهُ: حَدَّثَنِي بما شاهدته منه، فَقَالَ لَهُ: إن رأى الوزير أن يعفيني فعل فأعلمه أَنَّهُ لا يعفيه، وعاود مسألته عما شاهده فعاود استعفاءه، وألح عليه فِي السؤال فلما تردد القول بينهما، قَالَ: أعلم أني إن حدثتك كذبتني، ولم آمن مكروها يلحقني فوعده أن لا يلحقه مكروه، فَقَالَ: كنت معه بفارس فخرجنا نريد اصطخر فِي زمان شات، فلما صرنا فِي بعض الطريق أعلمته بأني قد اشتهيت خيارا، فَقَالَ: لِي فِي هذا المكان، وفي مثل هذا الوقت من الزمان، فقلت: هو شيء عرض لِي، ولما كَانَ بعد ساعات، قَالَ لِي: أنت عَلَى تلك الشهوة، فقلت: نعم، قَالَ: وسرنا إِلَى سفح جبل ثلج فأدخل يده فيه، وأخرج إلي منه خيارة خضراء، ودفعها إلي، فَقَالَ لَهُ حامد: فأكلتها، قَالَ: نعم، فَقَالَ لَهُ: كذبت يابن مائة ألف زانية فِي مائة ألف زانية، أوجعوا فكه، فأسرع الغلمان إليه وامتثلوا ما أمرهم به، وهو يصيح أليس من هذا خفنا؟ ثم أمر به فأقيم من المجلس، وأقبل حامد يتحدث عَنْ قوم من -[716]- أصحاب النيرنجات كانوا يغدون بإخراج التين، وما يجرى مجراه من الفواكه فإذا حصل ذلك فِي يد الإنسان، وأراد أن يأكله صار بعرا.
وحضرت مجلس حامد، وقد أحضر سفط خيار لطيف حمل من دار مُحَمَّد بن عَلِيّ القنائي، أكبر ظني، فتقدم بفتحه ففتح فإذا فيه قدر جافة خضر، وقوارير فيها شيء يشبه لون الزئبق، وكسر خبز جافة، وكان السمري حاضرا جالسا بالقرب من أَبِي فعجب من تلك القدر، وتصييرها فِي سفط مختوم، ومن تلك القوارير، وعندنا أنها أدهان، ومن كسر الخبز، وسأل أَبِي السمري، عَنْ ذلك فدافعه عَنِ الجواب، واستعفاه منه، وألح عليه فِي السؤال فعرفه أن تلك القدر رجيع الحلاج، وأنه يستشفي به، وأن الذي فِي القوارير بوله، فعرف حامد ما قاله فعجب منه وعجب من كَانَ فِي المجلس، واتصل القول فِي الطعن عَلَى الحلاج، وأقبل أَبِي يعيد ذكر تلك الكسر، ويتعجب منها، ومن احتفاظهم بها حتى غاظ السمري ذلك، فَقَالَ لَهُ: هو ذا أسمع ما تقول، وأرى تعجبك من هذه الكسر، وهي بين يديك فكل منها ما شئت، ثم انظر كيف يكون قلبك للحلاج بعد أكلك ما تأكله منها فتهيب أَبِي أن يأكلها، وتخوف أن يكون فيها سم، وأحضر حامد الحلاج، وسأله عما كَانَ فِي السفط، وعن احتفاظ أصحابه برجيعه وبوله؟ فذكر أَنَّهُ شيء ما علم به، ولا عرفه.
وكان يتفق فِي كثير من الأيام جلوس الحلاج فِي مجلس حامد إِلَى جنبي فأسمعه يَقُولُ دائما: سبحانك لا إله إِلا أنت عملت سوءا، وظلمت نفسي فاغفر لِي إِنَّهُ لا يغفر الذنوب إِلا أنت، وكانت عليه مدرعة سوداء من صوف، وكنت يوما، وأبي بين يدي حامد، ثم نهض عَنْ مجلسه، وخرجنا إِلَى دار العامة، وجلسنا فِي رواقها، وحضر هَارُون بن عمران الجهبذ فجلس بين يدي أَبِي، -[717]- ولم يحادثه فهو فِي ذاك إذ جاء غلام حامد الذي كَانَ موكلا بالحلاج، وأومأ إِلَى هَارُون بن عمران أن يخرج إليه فنهض، عَنِ المجلس مسرعا، ونحن لا ندري ما السبب فغاب عنا قليلا، ثم عاد، وهو متغير اللون جدا فأنكر أَبِي ما رآه منه، وسأله عنه، فَقَالَ: دعاني الغلام الموكل بالحلاج فخرجت إليه فأعلمني أَنَّهُ دخل إليه، ومعه الطبق الذي رسم أن يقدمه إليه فِي كل يوم فوجده ملأ البيت من سقفه إِلَى أرضه، وملأ جوانبه فهاله ما رأى من ذلك، ورمى بالطبق من يده، وخرج من البيت مسرعا، وأن الغلام ارتعد وانتفض وحم! وبقي هَارُون يتعجب من ذلك.
وبلغ حامدا عَنْ بعض أصحاب الحلاج أَنَّهُ ذكر أَنَّهُ دخل إليه إِلَى الموضع الذي هو فيه، وخاطبه بما أراده فأنكر ذلك كل الإنكار، وتقدم بمسألة الحجاب والبوابين عنه وقد كَانَ رسم أن لا يدخل إليه وضرب بعض البوابين فحلفوا بالإيمان المغلظة أنهم ما أدخلوا أحدا من أصحاب الحلاج إليه ولا اجتاز بهم، وتقدم بافتقاد السطوح، وجوانب الحيطان فافتقدوا ذلك أجمع، ولم يوجد لَهُ أثر ولا خلل، فسأل الحلاج عَنْ دخول من دخل إليه، فَقَالَ: من القدرة قد نزل ومن الموضع الذي وصل إِلَي منه خرج، وكان يخرج إِلَى حامد فِي كل يوم دفاتر مما حمل من دور أصحاب الحلاج ويجعل بين يديه فيدفعها إِلَى أبي، ويتقدم إليه بأن يقرأها عليه فكان يفعل ذلك دائما فقرأ عليه فِي بعض الأيام من كتب الحلاج، والقاضي أَبُو عُمَرَ حاضر، والقاضي أَبُو الْحُسَيْنِ بن الأشناني كتابا حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج، ولم يمكنه إفراد فِي داره بيتا لا يلحقه شيء من النجاسة، ولا يدخله أحد، ومنع من تطرقه فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه حول البيت فإذا انقضى ذلك، وقضى من المناسك ما يقضى بمكة مثله جمع ثلاثين يتيما وعمل لهم أمرأ ما يمكنه من الطعام وأحضرهم إِلَى ذلك البيت، وقدم إليهم ذلك الطعام، وتولى خدمتهم بنفسه فإذا فرغوا من أكلهم، وغسل أيديهم كسا كل واحد منهم قميصا ودفع إليه سبعة دراهم أو ثلاثة، الشك مني، فإذا فعل ذلك قام لَهُ مقام -[718]- الحج، فلما قرأ أَبِي هذا الفصل التفت أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي إِلَى الحلاج، وَقَالَ لَهُ: من أين لك هذا؟ قَالَ: من كتاب الإخلاص للحسن البصري، فَقَالَ: لَهُ أَبُو عُمَرَ كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكة، وليس فيه شيء مما ذكرته، فلما قَالَ أَبُو عُمَرَ: كذبت يا حلال الدم، قَالَ لَهُ حامد: اكتب بهذا، فتشاغل أَبُو عُمَرَ بخطاب الحلاج، فأقبل حامد يطالبه بالكتاب بما قاله، وهو يدافع ويتشاغل إِلَى أن مد حامد الدواة من بين يديه إِلَى أَبِي عُمَر، ودعا بدرج فدفعه إليه، وألح عليه حامد بالمطالبة بالكتاب إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده من حضر المجلس، ولما تبين الحلاج الصورة، قَالَ: ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا عَلَى بما يبيحه واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل أَبِي بَكْرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعَبْد الرَّحْمَنِ بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب فِي السنة موجودة فِي الوراقين، فاللَّه اللَّه فِي دمي، ولم يزل يردد هذا القول، والقوم يكتبون خطوطهم إِلَى أن استكملوا ما احتاجوا إليه ونهضوا عَنِ المجلس ورد الحلاج إِلَى موضعه الذي كَانَ فيه، ودفع حامد ذلك المحضر إِلَى والدي، وتقدم إليه أن يكتب إِلَى المقتدر بالله بخبر المجلس، وما جرى فيه، وينفذ الجواب عنها فكتب الرقعتين، وينفذ الفتوى درج الرقعه ويستأذنه فِي قتله، ويكتب رقعة إِلَى نصر الحاجب يسأله فيها إيصال الرقعة إِلَى المقتدر بالله، وأبطأ الجواب يومين فغلظ ذلك عَلَى حامد، ولحقه ندم عَلَى ما كتب به، وتخوف أن يكون قد وقع غير موقعه، ولم يجد بدا من نصرة ما عمله فكتب بخط والدي رقعة إِلَى المقتدر بالله فِي اليوم الثالث، يقتضى فيها ما تضمنته الأولى، ويقول إن ما جرى فِي المجلس قد شاع، وانتشر، ومتى لم يتبعه قتل الحلاج افتتن الناس به، ولم يختلف عليه اثنان، ويستأذن فِي ذلك، وأنفذ -[719]- الرقعة إِلَى مفلح، وسأله إيصاله، وتنجز الجواب عنها، وإنفاذه إليه فعاد الجواب من المقتدر بالله من غد ذلك اليوم من جهة مفلح بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله، وأباحوا دمه فلتحضر مُحَمَّد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بتسلمه، وضربه ألف سوط فإن تلف تحت الضرب، وإلا ضرب عنقه فسر حامد بهذا الجواب، وزال ما كَانَ عليه من الإضطراب، وأحضر مُحَمَّد بن عبد الصمد، وأقرأه إياه، وتقدم إليه بتسلم الحلاج فامتنع من ذلك، وذكر أَنَّهُ يتخوف أن ينتزع فأعلمه حامد أَنَّهُ يبعث معه غلمانه حتى يصيروا به إِلَى مجلس الشرطة فِي الجانب الغربي، ووقع الاتفاق عَلَى أن يحضر بعد عشاء الآخرة، ومعه جماعة من أصحابه، وقوم عَلَى بغال مؤفكة يجرون مجرى الساسة ليجعل عَلَى واحد منها ويدخل فِي غمار القوم، وأوصاه بأن يضربه ألف سوط فإن تلف حز رأسه واحتفظ به وأحرق جثته، وَقَالَ لَهُ حامد: إن قَالَ لك أجري لك الفرات ذهبا وفضة فَلا تقبل منه، ولا ترفع الضرب عنه فلما كَانَ بعد عشاء الآخرة، وافى مُحَمَّد بن عبد الصمد إِلَى حامد، ومعه رجاله، والبغال المؤكفة فتقدم إِلَى غلمانه بالركوب معه حتى يصل إِلَى مجلس الشرطة، وتقدم إِلَى الغلام الموكل به بإخراجه من الموضع الذي هو فيه، وتسليمه إِلَى مُحَمَّد بن عبد الصمد فحكى الغلام أَنَّهُ لما فتح الباب عنه، وأمره بالخروج، وهو وقت لم يكن يفتح عنه فِي مثله، قَالَ لَهُ: من عند الوزير، فَقَالَ: مُحَمَّد بن عبد الصمد، فَقَالَ: ذهبنا والله، وأخرج وأركب بعض تلك البغال المؤكفة، واختلط بجملة الساسة، وركب غلمان حامد معه حتى أوصلوه إِلَى الجسر، ثم انصرفوا، وبات هناك مُحَمَّد بن عبد الصمد، ورجاله مجتمعون حول المجلس فلما أصبح يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعده أخرج الحلاج إِلَى رحبة المجلس، وأمر الجلاد بضربه بالسوط، واجتمع من العامة -[720]- خلق كثير لا يحصى عددهم فضرب إِلَى تمام الألف سوط، وما استعفى، ولا تأوه بل لما بلغ ست مائة سوط، قَالَ لمحمد بن عبد الصمد: ادع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: قد قيل لِي إنك ستقول هذا، وما هو أكثر منه، وليس إِلَى رفع الضرب عنك سبيل، ولما بلغ ألف سوط قطعت يده، ثم رجله، ثم يده، ثم رجله، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وحضرت فِي هذا الوقت، وكنت واقفا عَلَى ظهر دابتي خارج المجلس، والجثة تقلب عَلَى الجمر والنيران تتوقد ولما صارت رمادا ألقيت فِي دجلة، ونصب الرأس يومين بِبَغْدَادَ عَلَى الجسر، ثم حمل إِلَى خراسان، وطيف به فِي النواحي وأقبل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما، واتفق أن زادت دجلة فِي تلك السنة زيادة فيها فضل فادعى أصحابه أن ذلك بسببه، ولأن الرماد خالط الماء، وزعم بعض أصحاب الحلاج أن المضروب عدو للحلاج ألقى شبهه عليه، وادعى بعضهم أنهم رأوه فِي ذلك اليوم بعد الذي عاينوه من أمره، والحال الذي جرت عليه، وهو راكب حمارا فِي طريق النهروان ففرحوا به، وَقَالَ لعلكم مثل هؤلاء البقر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب والمقتول، وزعم بعضهم أن دابة حولت فِي صورته، وكان نصر الحاجب بعد ذلك يظهر الترثي لَهُ ويقول إِنَّهُ مظلوم، وإنه رجل من العباد، وأحضر جماعة من الوراقين، وأحلفوا عَلَى أن لا يبيعوا شيئا من كتب الحلاج، ولا يشتروها.

نام کتاب : تاريخ بغداد ت بشار نویسنده : الخطيب البغدادي    جلد : 8  صفحه : 705
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست