أشرف علينا الأشراف، و كان أوّل من تكلّم كثير بن شهاب. فقال [1] :
أيها الناس، ألحقوا بأهاليكم، و لا تعجلوا، انتشروا و لا تعرّضوا أنفسكم للقتل، فهذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، و قد أعطى اللّه الأمير عهدا لئن أتممتم على حربه و لم تنصرفوا من عشيتكم هذه أن يحرم ذريتكم العطاء، و يفرق مقاتليكم في مغازي الشام على غير طمع، و يأخذ البريء بالسقيم، و الشاهد بالغائب، حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت [2] .
و تكلم الأشراف بنحو من كلام كثير، فلما سمع الناس مقالتهم تفرقوا.
أن المرأة كانت تأتي ابنها و أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، و يجيء الرجل إلى ابنه و أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب و الشر؟انصرف، فما زالوا يتفرقون و ينصرفون حتى أمسى ابن عقيل و ما معه إلاّ ثلاثون نفسا، حتى صليت المغرب فخرج متوجها نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلاّ و معه منها عشر، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه منهم إنسان فمضى متلددا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب [4] ، حتى خرج إلى دور بني بجيلة من كندة، فمضى حتى أتى باب امرأة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث و أعتقها، فتزوج بها أسيد الحضرمي، فولدت له بلالا، و كان بلال قد خرج مع الناس، و أمه قائمة تنتظر فسلم عليها ابن عقيل، فردت السلام، فقال لها: اسقيني ماء.
فدخلت فأخرجت إليه، فشرب، ثم أدخلت الإناء، و خرجت و هو جالس في مكانه، فقالت: ألم تشرب؟قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك فسكت، فأعادت عليه ثلاثا ثم قالت: سبحان اللّه يا عبد اللّه، قم إلى أهلك-عافاك اللّه- فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي و لا أحلّه لك، ثم قام، فقال: يا أمة اللّه، و اللّه ما لي في هذا المصر من أهل، فهل لك في معروف و أجر لعلي أكافئك به بعد