نتيجةً للبُعد
الزمني ، فيحسّ أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامّةٍ يعالج بها جوانب الغموض
ويملأ بها تلك الفجوات ، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الاصول تأريخية ، بمعنى أنّها
تشتدّ وتتأكّد كلّما ابتعد الفقيه تأريخياً عن عصر النصّ ، وتراكمت الشكوك على
عملية الاستنباط التي يمارسها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسِّر الفارق الزمنيّ بين
ازدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهيّ السنّيِّ وازدهاره في نطاق تفكيرنا
الفقهيِّ الإمامي ، فإنّ التأريخ يشير إلى أنّ علم الاصول ترعرع وازدهر نسبياً في
نطاق الفقه السنّيِّ قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهيِّ الامامي ؛ وذلك لأنّ
المذهب السنّيِّ كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فحين اجتاز
الفكر الفقهيّ السنّيّ القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ زمنيةٍ
كبيرةٍ تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات. وأمّا الإمامية فقد كانوا وقتئذٍ يعيشون
عصر النصّ الشرعي ؛ لأنّ الإمام امتداد لوجود النبي ، فكانت المشاكل التي يعانيها
فقهاء الإمامية في الاستنباط أقلّ بكثيرٍ إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للإحساس
بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الاصول ، ولهذا نجد أنّ الإمامية بمجرّد أن انتهى عصر
النصوص بالنسبة اليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجهٍ خاصٍّ تفتّحت
ذهنيّتهم الاصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة. وهذا لا يعني ـ طبعاً ـ أنّ
بذور التفكير الاصوليّ لم توجد لدى فقهاء أصحاب الأئمة عليهمالسلام ، بل قد وجدت هذه
البذور منذ أيام الصادقين عليهماالسلام على المستوى المناسب لتلك المرحلة. ومن الشواهد التأريخية
على ذلك : ما ترويه كتب الحديث من أسئلةٍ ترتبط بجملةٍ من العناصر المشتركة في
عملية الاستنباط ، وجّهها عدد من