الرابع : أنّ الاطراد بهذا المعنى وعدمه أجنبيان عن الحقيقة والمجاز.
والذي ينبغي أن يقال في المقام : هو أنّ الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاص في معنى مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة ، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز ، فهذا طريقة عملية لتعليم اللغات الأجنبية ، واستكشاف حقائقها العرفية.
توضيح ذلك : هو أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم إذا تصدى لتعلم اللغة السائرة في هذا البلد رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنى ، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنى آخر وهكذا ، ولكنّه لا يعلم أنّ هذه الاطلاقات من الاطلاقات الحقيقية أو المجازية ، فإذا رأى أنّهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلم بأ نّها معانٍ حقيقية ، لأنّ جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين : إمّا الوضع ، أو القرينة ، وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطراد فلا محالة يكون مستنداً إلى الوضع ، مثلاً إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ الماء في معناه المعهود ، ولكنّه شكّ في أنّه من المعاني الحقيقية ، أو من المعاني المجازية ، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينة من جهة الاطراد علم بأ نّه من المعاني الحقيقية ، ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حالية أو مقالية.
وبهذه الطريقة غالباً يتعلمون الأطفال والصبيان اللغات والألفاظ.
فقد تحصّل من ذلك : أنّ الاطراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لاثبات الحقيقة ، بل إنّ هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً ، فان تصريح الواضع وإن كان يعلم به الحقيقة إلاّ أنّه نادر جداً ، وأمّا التبادر فهو وإن كان يثبت به الوضع كما عرفت ، إلاّ أنّه لا بدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع ، إمّا من جهة تصريح الواضع ، أو من جهة الاطراد ، والأوّل نادر فيستند إلى الثاني لا محالة.