والتعبير بالزرع عن الدنيا والآخرة هو اقتباس من الآية الشريفة: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»[1].
يمكن للدنيا أن تكون مزرعة الآخرة، كما يمكنها أن تكون مزرعة لنفسها. ويذرها
الأعمال الحسنة والسيئة، وأعمالها الحسنة كالحبة التي تنبت سبع سنابل وفي كل سنبلة
مأة حبة، أمّا الأعمال السيئة فهى البذور التي تزرع في الأراضي المالحة: «لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً»[2].
وتشير العبارة الأخيرة ضمنيا إلى أنّ الأعمال الصالحة والطالحة إنّما تفرزها
طبيعة الاعتقادات القوية والضعيفة.
تأمّل: العلماء الحقيقيون
أوضح الإمام عليه السلام بجلاء في هذه الخطبة صفات العلماء، و من تشبه بهم من
علماء السوء، فكان في مقدمتها عدم معرفة قدر النفس. عدم معرفة قدر النفس ازاء عظمة
الله، ولا قدره تجاه المجتمع، ولا قدر نفسه حيال نفسه. ومن لم يعرف قدر نفسه فانّه
سيتيه في أمواج من الجهل والبؤس والحيرة والشقاء، حتى يكله الله إلى نفسه فيضل في
خضم هذه الحياة؛ فهو لا يرى سوى النعم المادية، وعليه فالدنيا عنده ماء، والآخرة
سراب من الهواء. والحلال والحرام والحق والباطل لديه على حد سواء؛ وهو ينطلق نحو
المال والمقام وكأنّها أوجب الواجبات، بينما يتقاعس عن واجباته وكأنّها من
المحرمات.
وقد اوردنا شرحاً مفصلًا بهذا الخصوص في الخطبة السابعة عشر من المجلد الأول،
ولا حاجة للتكرار.