و هذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعيّة هي في حدود طاقة الإنسان. و أنّها تسقط
عنه إذا تجاوزت هذه الحدود، و كما يقول علماء أصول الفقه: إنّ هذه القاعدة حاكمة
على جميع الواجبات الشرعيّة و مقدّمة عليها.
و قد يسأل: كيف يحاسب كلّ البشر على أعمالهم كلّها صغيرها و كبيرها؟
فتجيب الآية وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ
وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فهناك صحيفة أعمال الإنسان
المحفوظة لدى اللّه العلي القدير. و هي تنطق بالحقّ عمّا اقترفه الإنسان من ذنوب،
فلا يمكنه إنكارها [1].
و ربّما كان القصد من الكتاب الذي لدى اللّه هو اللوح المحفوظ. و لفظ «لدينا»
يؤكّد هذا التّفسير.
و الخلاصة أنّ الآية المذكورة آنفا تؤكّد حفظ الأعمال على أهلها من خير أو
شرّ، فهي مسجّلة بدقّة، و الإيمان بهذه الحقيقة يشجّع الصالحين على القيام بأعمال
الخير، و اجتناب الأعمال السيّئة.
و تعبير يَنْطِقُ بِالْحَقِ الذي وصف صحيفة أعمال البشر تشبه القول: إنّ الرسالة الفلانية ذات تعبير
واضح، أي: لا يحتاج إلى شرح. و كأنّها ناطقة بذاتها، فهي تجلّي الحقيقة.
و عبارة وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ تبيّن أنّه لا ظلم و لا جور و لا غفلة يوم الحساب، فكلّ
شيء في سجلّ معلوم.
و لكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب، أضافت الآية التالية
بأنّ هؤلاء الكفّار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل و الغفلة لدرجة أنّهم غافلون
عمّا ينتظرهم من الوعيد: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هذا[2].
[1]- لقد شرحنا بإسهاب صحيفة أعمال
الإنسان و حقيقتها في التّفسير الأمثل حين تفسير الآية (13) من سورة الإسراء و
كذلك حين تفسير الآية (49) من سورة الكهف.
[2]- يمكن أن تكون كلمة «هذا» إشارة
إلى صحيفة الأعمال و يوم الحساب، أو القرآن المجيد، أو أعمال الصالحين التي أشارت