و الفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأنّ كلّا منها قد اتّخذ سبيلا خاصّا به، و
أصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه، و لا بنسيم معنوي يهبّ على روحه
ليكشف لها حقيقة من الحقائق.
و هذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط و العناد، و هما أكبر عدوّ للحقيقة، و
لوحدة الامّة. إنّ الاعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة و احتقار سواه يجعل الإنسان
يصمّ أذنيه عن كلّ صوت يخالف ما اعتقده. و يغطّي رأسه بثوبه، أو يلجأ إلى الفرار
خوفا من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال
المشركون زمن نوح عليه السّلام و على لسان هذا النّبي المرسل: وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ
اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً[1].
و لا يمكن للإنسان النجاة بنفسه و الوصول إلى الحقّ إلّا بالتخلّص من هذه
الحالة و إنهاء عناده.
و لهذا تقول الآية الأخيرة هنا: فَذَرْهُمْ
فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أي اتركهم على
حالهم حتّى يأتي أجلهم، أو يأتيهم اللّه بعذاب منه، فليس لهم سوى هذا، لأنّهم
أصرّوا على البقاء في جهلهم و متاهتهم.
و كلمة «حين» قد تكون إشارة إلى وقت الموت، أو نزول العذاب، أو كليهما.
و أمّا «الغمرة» على وزن «ضربة» فهي بالأصل من «غمر» أي إتلاف كلّ شيء. ثمّ
أطلق غمر و غامر على الماء الكثير الذي يزيل كلّ شيء يواجهه و يواصل جريانه، ثمّ
أطلق على الجهل و البلايا التي يغرق فيها الإنسان. كما استعملته الآية السابقة
بمعنى الغفلة و الضياع و الجهل و الضلال.