حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل اللّه، و ما وعدهم اللّه من رزق
حسن يوم القيامة. و من أجل ألّا يتصورّ المرء أنّ الوعد الإلهي يختصّ بالآخرة
فحسب، تحدّثت الآية- موضع البحث- في مطلعها عن انتصارهم في ظلّ الرحمة الإلهيّة في
هذا العالم: ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ
بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس و مجابهة الظلم حقّ طبيعي لكلّ إنسان.
و عبارة «بمثل» تأكيد لحقيقة أنّ الدفاع لا يجوز له أن يتعدّى حدوده.
عبارة ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ هي أيضا إشارة إلى وعد اللّه بالانتصار لمن يظلم خلال
الدفاع عن نفسه، و على هذا فالساكت عن الحقّ و الذي يقبل الظلم و يرضخ له، لم يعده
اللّه بالنصر، فوعد اللّه بالنصر يخصّ الذين يدافعون عن أنفسهم و يجابهون الظالمين
و الجائرين، فهم يستعدّون بكلّ ما لديهم من قوّة لمجابهة هذا الظلم.
و يجب أن تمتزج الرحمة و السماح بالقصاص و العقاب لتكسب النادمين و التائبين
إلى اللّه، حيث تنتهي الآية ب إِنَّ
اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
و تطابق هذه الآية آية القصاص حيث منحت ولي القتيل حقّ القصاص من جهة و أفهمته
أنّ العفو فضيلة (للجديرين بها) من جهة أخرى.
و بما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لا بدّ و أن يصدر من مقتدر على ذلك.
لهذا تستعرض الآية قدرة اللّه في عالم الوجود التي لا تنتهي، فتقول: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ
يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فما أن يقل من
أحدهما حتّى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.
كلمة «يولج» مشتقّة من «الإيلاج» و هو في الأصل من الولوج أي الدخول.
و هذه العبارة- كما قلنا- تشير إلى التغييرات التدريجيّة المنظّمة تنظيما
تامّا،