قال ابن أبي قرّة في ( مزاره ) بسنده عن
أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين عليهالسلام
، قال : كان أبي علي بن الحسين عليهالسلام
، قد اتّخذ منزله ـ من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي عليهالسلام
ـ بيتا من شعر ، وأقام بالبادية ، فلبث بها عدّة سنين ، كراهية لمخالطة الناس [١] وملاقاتهم.
وكان يصير من
البادية بمقامه الى العراق زائرا لأبيه وجدّه عليهماالسلام
، ولا يشعر بذلك من فعله [٢].
إنه تصرّف غريب في طول تاريخ الإمامة ،
لم نجد له مثيلا ، لكنه ـ كما تكشف عنه الأحداث المتتالية ـ عمل عظيم ينمّ عن حنكة
سياسية ، وتدبير دقيق للإمام عليهالسلام.
فإذا كان الإمام عليهالسلام يعيش خارج المدينة ، وكان ينزل البادية
:
فإن الدولة لا تتمكّن من اتهامه بشيء
يحدث في المدينة ، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته ، في محل مكشوف مثل البادية!
وأمّا هو عليهالسلام
: فخير له أن يتخذ منتجعا مؤقتا بعيدا عن الناس ، حتى تهدأ الأوضاع وتستقرّ ،
وتعود المياه الى مجاريها.
وبعيدا عن الناس ، للاستجمام ،
ولاستجماع قواه ، كي ينتعش مما أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب ، ليتمكّن من
مداومة مسيره ـ بعد ذلك ـ بقوة وجدّ.
وهو عليهالسلام
بحاجة بعد ذلك العناء والضنى الى راحة جسدية ، وهدوء بال وخاطر ، حتى يبلّ من مرضه
أو يداوي جراحاته.
ثم ، إن المدينة التي دخلها الإمام
السجّاد عليهالسلام وهو غلام
ابن (٢٣) سنة ـ أو نحو ذلك ـ لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام ، وهو ـ بعد ـ لم
يعاشرهم ، ولم يداخلهم ، وما تداولوا حديثه ، ولم تظهر لهم خصائصه ، كي ينطلقوا
معه كقائم بالإمامة!
ولعدم وجود العدد اللازم من الإعوان
والأنصار ، بالقدر الكافي لإعداد حركة
[١] يلاحظ أن كلمة (
الناس ) في حديث أهل البيت عليهمالسلام
ـ خاصة ـ يطلق على غير المعتقدين بالإمامة ، في أغلب الأحيان.
[٢] فرحة الغري ،
لابن طاوس (ص ٤٣) الإمام زين العبادين ، للمقرّم (ص ٤٢) ولاحظ الكافي للكليني ،
قسم الروضة (ص ٢٥٥) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجّاد عليهالسلام لقبر أمير المؤمنين عليهالسلام ولقاء أبي حمزة الثمالي له ، فليلاحظ.