وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا
تخالف النظرية الأُولى التي فسرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى ،
بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق ، والعشق لجماله وكماله ، أحد العوامل لحصول
تلك المرتبة من التقوى ، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلاّ للكاملين في المعرفة
الإلهية البالغين أعلى قممها.
إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة
الميسورة ، وتعرف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً
نحو الحق ، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً ، فهذا الكمال المطلق هو
الذي إذا تعرف عليه الإنسان العارف ، يؤجج في نفسه نيران الشوق والمحبة ، ويدفعه
إلى أن لا يبتغي سواه ، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه ، ويصبح كل ما يخالف
أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره ، أشد القبح. وعندئذ يصبح الإنسان
مصوناً عن المخالفة ، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً ، وإلى ذلك
يشير الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام
بقوله : « ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة » [١].
هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة
المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوة في النفس تعصم الإنسان عن
الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى ، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان
الكامل وهويته الخارجية.
نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة
، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى
التأمل لها ، وأمّا العصمة في مقام تلقي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه إلى الناس ،
أو العصمة عن الخطأ في