الأوّل
: إنّ المتبادر من قوله سبحانه : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) في كلتا
الآيتين هو العموم والشمول وكأنّه يريد أن يقول : عجنت طينتهم بالذل والهوان
والمسكنة ولا تنفك عن تلكم الطائفة في أي جيل وزمان.
الثاني
: انّه سبحانه علّل ضرب الهوان والذل
والمسكنة عليهم بأمرين : أحدهما : الكفر بآيات الله وهو مشترك بين الجميع.
وثانيهما : وهو يرجع إلى أسلافهم وأجدادهم ، من قتل الأنبياء ولكن اليهود
المعاصرين لعصر الرسالة لما رضوا بفعالهم وعملهم الشنيع ، صاروا مثلهم « فإنّ من
رضي بفعل قوم فهو منهم » فأسند سبحانه الفعل إليهم أيضاً ، فضرب الذلة على جميعهم
من أوّلهم إلى آخرهم. ولو كان هذا هو الملاك لضرب الذل على يهود عهد الرسالة فهو
بعينه موجود في الباقين بعده إلى زماننا هذا ، ولا وجه لاختصاص الذل والمسكنة
ببعضهم دون بعض ، إذ ليس الهوان أو المسكنة ، إلاّ جزاءً ونكالاً من الله سبحانه
بالنسبة إلى هذه الطائفة ، فهم بين مقترف لأشد المعاصي وأهولها ، وبين راض بما
ارتكبه قومه من الجنايات الموبقة ، فكل من الطائفتين يعاقب ويؤخذ بجزاء عمله كما
قال سبحانه : (لَقَدْ
سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ
ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ * ذَٰلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) ( آل عمران
: ١٨١ ـ ١٨٢ ).
وقد أثبتت القرون والأجيال صدق ما تنبّأ
به القرآن من لدن نزوله إلى عصرنا ، ولكي نتحقق من ذلك لا بد من الرجوع إلى
التاريخ : « فها هو « بخت نصر » دخل أورشليم وقاد أكثر أهلها أسرى وكان ذلك عام
٥٨٧ ق.م وفي سنة ٣٠٢ ق.م أثقل ملوك سوريا كواهل اليهود بالضرائب واضطهدوهم.
وأمّا إضطهادهم بعد الإسلام فكثير ، فقد
أجلى النبي « بني قينقاع » « وبني النضير » وقتل « بني قريظة » لما تآمروا عليه
كما هاجمتهم جميع الاُمم المسيحية فلم يجدوا ملجأ إلاّ الأندلس حيث أحاطهم اُمراء
الإسلام بعطف خاص ، لكن عندما احتل النصارى الأندلس أخذوا بتشريد اليهود وطردهم
وإجبارهم على مغادرة البلاد الإسبانية ، وقد