بينهم معيشتهم ،
ووضعهم في الدنيا مواضعهم ، فالمتقون فيها هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ،
وملبسهم الإقتصاد ، ومشيهم التواضع ، خَصّوا الله عزّوجلّ بالطاعة فخُصّوا ، غاضين
أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم ، واقفين أسماعهم على العلم النافع لهم ، نُزّلت
أنفسهم منهم في البلاء كالّذي نُزّل في الرخاء ، رضا عن الله بالقضاء [ و ] [١] لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقرّ
أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب ، عظم الخالق في
أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون ، وهم
والنّار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ، قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ،
وأجسادهم نحيفة ، وحوائجهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، ومعونتهم في الإسلام عظيمة ،
صبروا أيّاماً قصيرة ، أعقبتهم راحةً طويلةً ، وتجارة مربحة يسّرها لهم ربّ كريم ،
أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وطلبتهم فأعجزوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها.
أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين [٢] لاجزاء القرآن يرتّلون [٣] به ترتيلاً ، يحزنون به أنفسهم ،
ويستثيرون [٤]
به دواء دائهم ويهيج أحزانهم بكاء على ذنوبهم ووجع [٥] كلوم حوائجهم [٦] ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا
إليها طمعاً ، وتطلّعت إليها أنفسهم شوقاً ، و ظنّوا أنها نصب أعينهم ، وإذ مرّوا
بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم ، واقشعرّت منها جلودهم ،
ووجلت منا قلوبهم ، وظنّوا أن صهيل جهنّم وزفيرها وشهيقها في اصول آذانهم ، فهم
حانون [٧] على أوساطهم
، يمجدون جباراً عظيماً ، مفترشون جباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، تجري
دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم.
وأمّا النهار فحلماء علماء بررة أتقياء
، قد براهم الخوف بري القداح ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض
، ويقول : قد خولطوا ، ولقد خالطهم أمر عظيم إذا هم ذكروا عظمة الله وشدة سلطانه
مع ما يخالطهم من ذكر الموت وأهوال