أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَقْصِمْ (يفصم) جَبَّارِي دَهْر قَطُّ إِلاَّ بَعْدَ تَمْهِيل وَرَخَاء; وَلَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَد مِنَ الاُْمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْل وَبَلاَء; وَفِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْب وَمَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْب مُعْتَبَرٌ! وَمَا كُلُّ ذِي قَلْب بِلَبِيب، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْع بِسَمِيع، وَلاَ كُلُّ نَاظِر بِبَصِير. فَيَا عَجَباً! وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا؟ ! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْب، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْب، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ. الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ (المبهمات) عَلَى آرَائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِىء مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيَما يَرَى بِعُرًى ثِقَات (وثيقات ـ موثقات)، وَأَسْبَاب مُحْكَمَات.
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَة مِنَ الاُْمَمِ وَاعْتِزَام مِنَ الْفِتَنِ، وَانْتِشَار مِنَ الاُْمُورِ، وَتَلَظٍّ (تلظّى) مِنَ الْحُرُوبِ، وَالدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ; عَلَى حِينِ اصْفِرَار مِنْ وَرَقِهَا، وَإِيَاس مِنْ ثَمَرِهَا، وَاغْوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لاَِهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا. ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ.