فَظَلَّ سَادِراً، وَبَاتَ سَاهِراً، فِي غَمَرَاتِ الاْلاَمِ، وَطَوَارِقِ الاَْوْجَاعِ وَالاَْسْقَامِ، بَيْنَ أَخ شَقِيق، وَوَالِد شَفِيق، وَدَاعِيَة بِالْوَيْلِ جَزَعاً، وَلاَدِمَة لِلصَّدْرِ قَلَقاً; وَالْمَرْءُ فِي سَكْرَة مُلْهِثَة، وَغَمْرَة كَارِثَة، وَأَنَّة مُوجِعَة، وَجَذْبَة مُكْرِبَة، وَسَوْقَة مُتْعِبَة. ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً (ملبساً)، وَجُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً، ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الاَْعْوَادِ رَجِيعَ وَصَب، وَنِضْوَ سَقَم، تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ، وَحَشَدَةُ الاِْخْوَانِ، إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ، وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ، وَمُفْرَدِ وَحْشَتِهِ. حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ، وَرَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ (مفجّ)، أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ، وَعَثْرَةِ الاِمْتِحَانِ. وَأَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ، وَتَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ، وَفَوْرَاتُ السَّعِيرِ، وَسَوْرَاتُ الزَّفِيرِ (السّعير)، لاَ فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ، وَلاَ دَعَةٌ مُزِيحَةٌ، وَلاَ قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ، وَلاَ مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَلاَ سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ، بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ، وَعَذَابِ السَّاعَاتِ! إِنَّا بِاللهِ عَائِذُونَ!
عِبَادَ اللهِ، أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا، وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا، وَأُنْظِرُ وافَلَهَوْا، وَسُلِّمُوا فَنَسُوا! أُمْهِلُوا طَوِيلا، وَمُنِحُوا جَمِيلا، وَحُذِّرُوا أَلِيماً، وَوُعِدُوا جَسِيماً (جميلا)! احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ، وَالْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ.
أُولِي الاَْبْصَارِ وَالاَْسْمَاعِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْمَتَاعِ، هَلْ مِنْ مَنَاص أَوْ خَلاَص؟، أَوْ مَعَاذ؟ أَوْ مَلاَذ؟، أَوْ فِرَار أَوْ مَحَار! أَمْ لاَ ؟ «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ! » أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ! أَمْ بمَاذَا تَغْتَرُّونَ! وَإِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الاَْرْضِ، ذَاتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، قِيدُ قَدَّهِ، مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ! الاْنَ عِبَادَ اللهِ وَالْخِنَاقُ مُهْمَلٌ، وَالرُّوحُ مُرْسَلٌ، فِي فَيْنَةِ الاِْرْشَادِ، وَرَاحَةِ الاَْجْسَادِ، وَبَاحَةِ الاِحْتِشَادِ، وَمَهَلِ الْبَقِيَّةِ، وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ، وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ، وَانْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ، قَبْلَ الضَّنْكِ وَالْمَضِيقِ، وَالرَّوْعِ وَالزُّهُوقِ، وَقَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ وَأَخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ.
و في الخبر: أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، و بكت العيون، و رجفت القلوب، و من الناس من يسمي هذه الخطبة: «الغراء».