وَلكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ، فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ: عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَأَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا. وهو (عليه السلام) أوّل من سمعت منه هذه الكلمة، أعني: «فما عدا مما بدا».
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْر عَنُود، وَزَمَن كَنُود (شديد)، يُعَدُّ فِيهِ الُْمحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا.
وَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَاف: مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ فِي الاَْرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ، وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ، وَنَضِيضُ وَفْرِهِ. وَمِنْهُمْ الْمُصْلِتُ لِسَيْفِهِ، وَالْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ، وَالُْمجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ، وَأَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَام يَنْتَهِزُهُ، أَوْ مِقْنَب يَقُودُهُ، أَوْ مِنْبَر يَفْرَعُهُ. وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضاً! وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الاْخِرَةِ، وَلاَ يَطْلُبُ الاْخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا، قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ، وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ، وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلاَْمَانَةِ، وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُؤُولَةُ نَفْسِهِ، وَانْقِطَاعُ سَبَبِهِ، فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ، وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ فِي مَرَاح وَلاَمَغْدًى.
وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الَْمحْشَرِ، فَهُمْ بَيْنَ شَرِيد نَادٍّ، وَخَائِف مَقْمُوع، وَسَاكِت مَكْعُوم، وَدَاع مُخْلِص، وَثَكْلاَنَ مُوجَع، قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ (أحملتهم) التَّقِيَّةُ،