حَسَكَهُ وَنَقَضَتِ الاَْيَّامُ قُوَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَب، فَخَالَطَهُ بَثٌّ لاَ يَعْرِفُهُ، وَنَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَل، آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ. فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الاَْطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ، وَتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِد إِلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً، وَلاَ حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَيَّجَ بُرُودَةً، وَلاَ اعْتَدَلَ بِمُمَازِج لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاء; حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ، وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ، وَتَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنْهُ، وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَر يَكْتُمُونَهُ.
فَقَائِلٌ يَقُولُ: هُوَ لِمَا بِهِ، وَمُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ، يُذَكِّرُهُمْ أَسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ. فَبَيْنَا هُوَ كَذلِكَ عَلَى جَنَاح مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الاَْحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ، وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ. فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاء مُؤْلِم بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ، مِنْ كَبِير كَانَ يُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِير كَانَ يَرْحَمُهُ!
وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَات هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَة، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا.
قاله عند تلاوته: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ رِجَالٌ لاَتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ).[ 1 ]
إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعَالى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ، وَمَا بَرِحَ لِلّهِ ـ عَزَّتْ آلاَؤُهُ ـ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ، عِبَادٌ