ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاء وَعَنَاء، وَغِيَر وَعِبَر; فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ، لاَ تُخْطِىءُ سِهَامُهُ، وَلاَ تُؤسَى جِرَاحُهُ (حراجه). يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ، وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ. آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ. وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَالاَ يَأْكُلُ وَيَبْنِي مَالاَ يَسْكُنُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللهِ تَعَالى لاَ مَالا حَمَلَ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ! وَمِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، وَالْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً; لَيْسَ ذلِكَ إِلاّ نَعِيمَاً زَلَّ (زال) وَبُؤْساً نَزَلَ وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ. فَلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ، وَلاَ مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ. فَسُبْحَانَ اللهِ مَا أَغَرَّ سُرُورَهَا! وَأَظْمَأَ رِيَّهَا! وَأَضْحَى فَيْئَهَا! لاَجَاء يُرَدُّ، وَلاَ مَاض (مؤمّل) يَرْتَدُّ. فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ، وَ أَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ !
إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْر مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ. وَكُلُّ شَيْء مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ، وَكُلُّ شَيْء مِنَ الاْخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ. فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ فِي الاْخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الاْخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا : فَكَمْ مِنْ مَنْقُوص رَابِح وَمَزِيد خَاسِر! إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ. وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ. قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ; فَلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ وَاللهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ، وَدَخِلَ الْيَقِينُ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ. فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الاَْجَلِ، فَإِنِّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ. مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ، وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ. الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي، وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي. فَـ (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).[ 1 ]